فإن هذا التأويل في كثير من المواضع أو أكثرها وعامتها من باب تحريف الكلم عن مواضعه من جنس تأويلات القرامطة والباطنية وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ورموا في آثارهم بالشهب
وقد صنف الإمام أحمد كتابا في الرد على هؤلاء وسماه الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله فعاب أحمد عليهم أنهم يفسرون القرآن بغير ما هو معناه ولم يقل أحمد ولا أحد من الأئمة إن الرسول لم يكن يعرف معاني آيات الصفات وأحاديثها ولا قالوا إن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يعرفوا تفسير القرآن ومعانيه
كيف وقد أمر الله بتدبر كتابه فقال تعالى كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ولم يقل بعض آياته وقال أفلا يتدبرون القرآن وقال أفلم يدبروا القول وأمثال ذلك في النصوص التي تبين أن الله يحب أن يتدبر الناس القرآن كله وأنه جعله نورا وهدى لعباده ومحال أن يكون ذلك مما لا يفهم معناه وقد قال أبو عبدالرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن عثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود أنهم قالوا كنا إذا تعلمنا من النبي عشر آيات لم نجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن من يقول في الرسول وبيانه للناس مما هو من قول الملاحدة فكيف يكون قوله في السلف حتى يدعي إتباعه وهو مخالف للرسول والسلف عند نفسه وعند طائفته فإنه قد أظهر من قول النفاة ما كان الرسول يرى عدم إظهاره لما فيه من فساد الناس وأما عند أهل العلم والإيمان فلا وقول النفاة باطل باطنا وظاهرا والرسول ومتبعوه منزهون عن ذلك بل مات وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك وأخبرنا أن كل ما حدث بعده ن محدثات الأمور فهو بدعة وكل بدعة ضلالة
وربما أنشد بعض أهل الكلام بيت مجنون بني عامر ... وكل يدعى وصلا لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا ...
فمن قال من الشعر ما هو حكمة أو تمثل ببيت من الشعر فيما تبين له أنه حق كان قريبا أما إثبات الدعوى بمجرد كلام منظوم من شعر أو غيره فيقال لصاحبه ينبغي أن تبين أن السلف لا يقرون بمن انتحلهم وهذا ظاهر فيما ذكره هو وغيره ممن يقولون عن السلف ما لم يقولوه ولم ينقله عنهم أحد له معرفة بحالهم وعدل فيما نقل فإن الناقل لا بد أن يكون عالما عدلا
فإن فرض أن أحدا نقل مذهب السلف كما يذكره فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف كأبي المعالي وأبي حامد الغزالي وابن الخطيب وأمثالهم ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة فضلا عن خواصها ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف بالبخاري ومسلما وأحاديثهما إلا بالسماع كما يذكر ذلك العامة ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث وبين الحديث المفترى المكذوب وكتبهم أصدق شاهد بذلك ففيها عجائب
وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك إما عند الموت وإما قبل الموت والحكايات في هذا كثيرة معروفة
هذا أبو الحسن الأشعري نشأ في الاعتزال أربعين عاما يناظر عليه ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم
وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث وصنف إلجام العوام عن علم الكلام
وكذلك أبو عبدالله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفى عليلا ولا تروى عليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات الرحمن على العرش استوى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما هل تعلم له سميا ثم قال ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وكان يتمثل كثيرا ... نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال ... وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ... ولم نستفذ من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ...
¥