والمعنى الثالث أن التأويل هو الحقيقة التى يؤول الكلام اليها وان وافقت ظاهره فتأويل ما أخبر الله به فى الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها لا ما يتصور من معانيها فى الاذهان ويعبر عنه باللسان وهذا هو التأويل فى لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف أنه قال يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا وقال تعالى هل ينظرون الا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق وقال تعالى فان تنازعتم فى شىء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
وهذا التأويل هو الذى لا يعلمه الا الله
وتأويل الصفات هو الحقيقة التى انفرد الله تعالى بعلمها وهو الكيف المجهول الذى قال فيه السلف كمالك وغيره الإستواء معلوم والكيف مجهول فالاستواء معلوم يعلم معناه ويفسر ويترجم بلغة اخرى وهو من التأويل الذى يعلمه الراسخون فى العلم وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذى لا يعلمه الا الله تعالى
وقد روى عن ابن عباس ما ذكره عبدالرزاق وغيره فى تفسيرهم عنه أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه
تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه الا الله عز وجل فمن ادعى علمه فهو كاذب
وهذا كما قال تعالى فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون وقال النبى يقول الله تعالى أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وكذلك علم وقت الساعة ونحو ذلك فهذا من التأويل الذى لا يعلمه الا الله تعالى
وان كنا نفهم معانى ما خوطبنا به ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا اياه كما قال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وقال أفلم يدبروا القول فأمر بتدبر القرآن كله لا بتدبر بعضه
وقال أبو عبدالرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن عثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا اذا تعلموا من النبى عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا
وقال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس رضى الله عنهما من فاتحته الى خاتمته أقف عند كل آية واسأله عنها
وقال الشعبى ما ابتدع أحد بدعة الا وفى كتاب الله بيانها وقال مسروق ما سئل أصحاب محمد عن شىء الا وعلمه فى القرآن ولكن علمنا قصر عنه
وهذا باب واسع قد بسط فى موضعه
والمقصود هنا التنبيه على أصول المقالات الفاسدة التى أوجبت الضلالة فى باب العلم والايمان بما جاء به الرسول وان من جعل الرسول غير عالم بمعانى القرآن الذى أنزل اليه ولا جبريل جعله غير عالم بالسمعيات ولم يجعل القرآن هدى ولا بيانا
للناس ثم هؤلاء ينكرون العقليات فى هذا الباب بالكلية فلا يجعلون عند الرسول وأمته فى باب معرفة الله عز وجل لا علوما عقلية ولا سمعية وهم قد شاركوا الملاحدة فى هذه من وجوه متعددة وهم مخطئون فيما نسبوا الى الرسول والى السلف من الجهل كما أخطأ فى ذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة وسائر اصناف الملاحدة
ونحن نذكر من الفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من نقل مذهبهم الى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم:
روى ابو بكر البيهقى فى الأسماء والصفات باسناد صحيح عن الأوزاعى قال كنا والتابعون متوافرون نقول ان الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته
وقد حكى الأوزاعى وهو أحد الأئمة الأربعة فى عصر تابع التابعين الذين هم مالك إمام أهل الحجاز و الأوزاعى امام أهل الشام و الليث امام أهل مصر و الثورى امام أهل العراق حكى شهرة القول فى زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية
وانما قال الأوزاعى هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه والنافى لصفاته ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك
وروى أبو بكر الخلال فى كتاب السنة عن الاوزاعى قال سئل مكحول والزهرى عن تفسير الأحاديث فقالا امروها كما جاءت وروى ايضا عن الوليد بن مسلم قال سألت مالك بن أنس وسفيان الثورى والليث بن سعد والاوزاعى عن الأخبار التى جاءت فى الصفات فقالوا أمروها كما جاءت وفى رواية فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيف
¥