الجزم بأنه ثمة رسالتان إحداهما للأشعري وأخرى لتلميذه ابن مجاهد مع اتحاد العنوان والموضوع غير صحيح، نعم يمكن أن نفترض وجود رسالتين اتحد عنوانهما لنتجنب توهيم ابن عساكر، لأن ورود السؤال من أهل بلد لإمامين في زمنين مختلفين ممكن، لكن أن يطرح السؤال نفسه وأن يكون الجواب أيضا متحدا فهذا يبعد والله أعلم.
ومن هذا يعلم جواب قولك: «والعقل لا يحيل أن يرسل كل منهما بل والظاهر من مقدمة الأشعري أن الأشعري نفسه أرسل أكثر من رسالة!! فهو يقول: ((ووقفت أيدكم الله على ما ذكرتموه من أحمادكم جوابي عن المسائل التي كنتم أنقذتموها إلى في العام الماضي ... ووقوع ما ذكرته فكم فيها الموقع الذي حمدتموه وعرفتم وجه الصواب فيه .. الخ.
-هل قال بقولي أحد من أهل العلم
قولك: «فكون أن الأشعري لم يرسل شيئاً وأن الرسالة واحدة لم يذهب له أحد من أهل العلم والمعرفة فيما اعلم «غير مسلم فالعلماء الذين نسبوا الرسالة إلى ابن مجاهد قد ذهبوا إلى الرأي الذي قررته.
-فائدة عزيزة ودليل جديد
قولك: «فقد وقف جماعة من الأشعرية على رسالة ابن مجاهد ونقلوا منها منهم النفراوي في الفواكة الدواني ج1/ 77ومحمد بن سلامة الأنصاري التونسي في كتابه النكت المفيدة و العدوي في حاشيته على شرح كفاية الطالب والتتائي وابن ناجي على ما جاء في حاشية الدكتور أحمد سحنون على كتاب تحرير المقالة ص159 وغيرهم وقد قال فيها ما نصّه: "مما أجمعوا على إطلاقه أنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه إطلاقا شرعيا (1) " وهذه كلام غير ما ورد في رسالة الأشعري وهو قوله: ((وأنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه وقد دل على ذلك بقوله: ((أأمنتم من في السموات أن يخسف بكم الأرض)) ((إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)) الخ ص232. فهذا غير ذاك كما ترى فنص الأشعري لا يوجد فيه كلمه (إطلاق) ولا كلمه (شرعياً) الخ».
جزاك الله خيرا على هذا النقل وهذه الفائدة التي تساوي رحلة، فإني كنت أود أن أقف على نص منقول من رسالة ابن مجاهد ليحصل لي اليقين بأن الرسالة المطبوعة الموسومة برسالة إلى أهل الثغر هي عينها التي نسبها إليه القاضي عياض وأسندها ابن خير وغيره، وقد أرشدتني إلى ما كنت أريد، فإن هذا النص دليل على أن هذه الرسالة المنسوبة للأشعري هي عينها المنسوبة لابن مجاهد، وأما الاختلاف المذكور في التعبير في آخر النص فلا يدل التغاير لأن النقل عند المؤلفين كثيرا ما يكون بالمعنى ويكون فيه زيادة ونقص، خاصة عند المتأخرين الذين ينقل بعضهم عن بعض دون الرجوع إلى المصادر، وإنك لتجد مثل هذا التصرف حتى مع الأحاديث النبوية فكيف مع غيرها، واعتبر هذا بنقول الزركشي مثلا في البحر المحيط عمن سبقه من أهل الأصول، ونقول ابن حجر في الفتح عمن سبقه من الشراح يتضح المراد إن شاء الله تعالى، والظاهر أن الناقل الأول لكلام ابن مجاهد أراد الاختصار فحذف الأدلة التي نص عليها ابن مجاهد وعبر عنها بالإطلاق الشرعي والله أعلم.
-عدم ذكر ابن فورك
أما ردك على النقطة الثالثة المتعلقة بابن فورك ففيه نوع تسرع وعدم تأمل فأنا لم أستند إلى عدم ذكره للرسالة مجردا حتى يلزمنى نفي ما لم يذكره من مؤلفات، وكذا لم أكن غافلا عن أنه أشار إلى كتب أخرى تقصد هو عدم ذكرها بقوله «سوى أماليه والجوابات المتفرقة عن المسائل الواردات من الجهات المختلفات» لذلك فقد قلت: «أن أبا بكر ابن فُورك لما أحصى كتب الأشعري لم يذكر هذا الكتاب من ضمنها (8)، وهو العارف بمذهب الأشعري ومجرد أقواله، وحجم الرسالة كبير وموضوعها خطير فلو علمها له لم يسكت عنها.
فقولي وحجم الرسالة كبير أي ليس هو شأن الفتاوى والرسائل الصغيرة التي يسكت عنها لكثرتها، وقولي وموضوعها خطير أي لما تضمنه من حكاية إجماع السلف فموضوع هذه الرسالة أهم من الإبانة التي قرر فيها ما ظنه عقيدة الإمام أحمد بن حنبل، هذه وجهة نظر قابلة للأخذ والرد، لذلك أقول إن ما ذكرته في المناقشة لا يخفى وليس فيه إجابة عن إيرادي.
وكنت أود لو يفيدنا من أمكنه الإطلاع على كتاب المجرد لابن فورك بشيء.
-تاريخ رجوع الأشعري
قولك: «رابعاً بخصوص التأريخ: فالقول أنه لم يزل معتزلياً سنة 297 مبني على أن مدة مقامه في الإعتزال أربعين عاماً لكن هذا التأريخ تقريبي وليس بدقيق الخ»، نعم هو تقريبي وقد ولد الأشعري سنة ستين، فلو افترضنا أنه تاب سنة ست وتسعين أو خمس وتسعين فهل ذلك يصحح نسبة الرسالة إليه؟! متى رجع إلى الحق ومتى طلبه من أهله حتى وقف على هذه الإجماعات؟ ومتى اشتهر بالرد على أهل الاعتزال؟ حتى يرد عليه هذا السؤال من أقاصي البلاد من ثغر باب الأبواب؟
-استعظام توهيم الأئمة
قولك: «على أن القول بأن ابن تيميه شيخ الإسلام الحافظ مجرد تابع ومقلد لابن عساكر قول باطل لا يحتاج لكثير كلام لإبطاله، وابن عساكر ذكر الكثير والكثير من كتب الأشعري ولم يذكرها أحد غيره وهو إمام حافظ معروف يجوز أن ينفرد عن غيره بذكر كتاب لم يذكره من ترجم له ممن قبله بل هو عمده لكثير ممن ترجم للأشعري».
جوابه أن العلماء المحققين يجوز عليهم الوهم، وكونهم محققين لا يعني أنهم لا يقلدون أبدا، ولا يمنع من لم يقتنع بما ذهبوا إليه أن يخالفهم إلى قول غيرهم والعبرة في مسائل العلم بالحجة والبرهان، وشيخ الإسلام أخبر بمذهب أحمد رحمه الله تعالى أكثر من خبرته بالأشعري وهو يثبت نسبة كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد، والذهبي رحمه الله ينفيه عنه ويقول هو موضوع انظر السير (11/ 286) فهل يجوز أن يرد عليه بمثل الكلام المذكور أعلاه.
وإني لا أزعم أن ما رجحته هو الحق الذي دونه الباطل، لكن هو حكم بغلبة الظن، والأوجه التي ذكرتها قد يدخلها الاحتمال ويصح عليها الإيراد لكنها يشد بعضها بعضا، والله أعلم.
¥