ومن المعلوم أنّ طبيعة المسيح عليه السّلام من المسائل الشّائكة في العقيدة النّصرانية لا يزال الجدل فيها واسعًا عند الثّيولوجييّن النّصارى وعلماء اللاهوت حتّى اتّخذت أبعادًا فلسفيّة أدّت إلى خلافات جوهريّة بين الطّوائف المسيحيّة, فمنذ مجمع نيقيّة في القرن الرّابع ميلادي ومنذ قتل الموحّد المسلم آريوس السّكندري (رحمه اللّه) من قبل الكنيسة, لا يزال الخلاف على أشدّه في طبيعة المسيح, ومنها النّظرية الغنوصيّة القائلة بأنّ المسيح عليه السّلام له طبيعة روحيّة ولم يكن له جسد بشري إلاّ ما تبيّن للنّاس تصوّره بسسب نورانيّة روحه فاتّخذ جسمًا خياليًا, وسمّيت هذه فيما بعد بالدّوسيتية, وهي كلمة يونانية أصلها "دوكين" بمعنى يظهر أو يتجلّى, وهذه النّظرية في الواقع انتقلت من الفلسفات الوثنية القديمة واعتمدها الفيلسوف المشهور فيلو, صاحب النّص الشّهير: "في البدء كانت الكلمة, وكانت الكلمة مع اللّه, وكانت الكلمة اللّه" هذا النّص الذي هو الآن أوّل جملة من إنجيل يوحنّا, ومن هنا فإنّ الدّوسيتيّين يفسّرون جميع الألم والعذاب التي زُعم أن المسيح تعرّض له بأنّه تقلّب روحه في النّعيم اللاّهوتي, والذي يظهر لأصحاب أجساد الخطيئة من العالم السّفلي أنّه عذاب وألم وشقاء نتيجة أرواحهم الغارقة في الخطيئة, فلا فرق عندهم بين المسيح قبل الصّلب وبعده, ومن هذا المنطلق فإنّ القتل لم يكن حاصلاً لجسده لأنّه لم يمسّ العالم الأرضي, وماظهر لمشاهديه من قتل إنّما هي حالة الإغماء تكون أشبه بحدّ التّماس بين العالمين العلوي والسّفلي من أجل حدوث تطهير الخطايا, فهو إذن عرض دون جوهر (بالمصطلح الفلسفي) معتمد على الخيال ( Phanto) !, هذه النّظريّة الغنوصيّة وجدت أيضًا صداها بين الفلسفة الإسلامية وتطوّرت لتأخذ أبعاد وحدة الوجود ومن دعا إليها كابن عربي والحلاّج وابن سبعين والسّهروردي وغيرهم.
ويربط بعض أعداء الإسلام من نصارى ويهود وملحدين بين الإسلام وبين النّظريّة ويعتمدون على قوله تعالى:"ولكن شبّه لهم", وهو لا شكّ استدلال باطل لأنّ الإسلام يقرّر حقيقة المسيح الجسديّة بكلّ وضوح وأنّه بشر له طبيعة بشريّة, يبقى الأمر الذي يحتاج إلى استفاضة هو نظريّات تفنيد الصّلب في الإسلام وهل لمسألة الإغماء وجه شرعيّ في نجاة المسيح من القتل والصّلب.
تقرّر إذن بمعرفة حقيقة الدّوسيتية أنّه لا مكان لها في الإسلام وأنّ القائل بها منكر لبشريّة المسيح, يبقى الأمر الذي يحتاج إلى بيان هو مسألة الإغماء والنّظرة الشّرعيّة لها.
والجدير بالذّكر أنّ نظرية الإغماء لا تتعلّق بالإخبار بمصير المسيح بعد حادثة الصّلب, فالقائلون بها اختلفوا فيما حدث له بعد ذلك من قائل بالرّفع وقائل بفراره إلى مصر وقائل بفراره إلى الهند, وما يهمّنا أوّلا الآن هو ما يتعلّق بحال الصّلب. وأوّل شيئ يقرّ به القائل بالإغماء هو وقوع الصّلب من حيث أنّه وضع الشّخص على الصّليب لا على أنّه مات مصلوبًا, لكنّه نجا من الموت على الصّليب, ويعبّر عنه بقولهم: ( Survived the Crucifixion), أي نجا من الموت على الصّليب, وهو ما ذهب إليه أهل القول الأوّل وكذا ميرزا غلام أحمد, غير أنّ القاديانيّة يتأوّلون قوله تعالى:"وما صلبوه" أي ما قتلوه على الصّليب, ولا يعني عندهم نفي وضعه على الصّليب, فهم وإن نفوا قتله وموته حال وضعه على الصّليب, إلاّ أنّهم يقولون بأنّه وضع على الصّليب لكنّه نجا من الموت.
ويخلط الكثير من النّاس حينما يريد أن يفسّر الوفاة في القرآن بشأن عيسى عليه السّلام ويعلّل بها الإغماء, فيقول إنّ اللّه تعالى رفعه بعد أن توفّاه بالنّوم, مستدلاًّ على هذا بقوله تعالى ":إنّي متوفّيك ورافعك إليّ", ثمّ يعمد إلى القول بأنّ المسيح عليه السّلام توفّاه اللّه بالنّوم ثمّ رفعه.
¥