والحقيقة أنّ القول بأنّ اللّه تعالى توفّاه بالنّوم حال الرّفع هو وجه سليم في التّفسير, وهو مرويّ عن السّلف وصحّح ابن كثير سنده عن ابن عبّاس في إحدى روايتيه وهو اختياره, لكن يجب أن يعلم أنّ هذه الوفاة ليست حال وقوع الصّلب, أي ليست حال كون المسيح على الصّليب, وإنّما قبل ذلك أي أنّ اليهود والرّومان لم يظفروا بالمسيح أصلاً, فالوفاة إن كانت فسّرت بالنّوم -وإن كان مرجوحًا عندي- فإنّه رفع عليه السّلام حالها ولا إشكال في تعلّق هذا بالصّلب لأنّ توابعه أصلاًُ لم تتحقّق كإلقاء قبض وسجن ونحو ذلك, وإن كانت فسّرت بأنّ الوفاة بمعنى استيفاء الأجر فهذا هو الرّاجح بناء على ما سأذكره لاحقًا عن صحّة الرّؤية الشّرعيّة في الحادثة وإثبات واقعة إلقاء الشّبه.
وترجيح معنى الوفاة على أنّه وفاة القبض والاستيفاء هو الظّاهر من وجوه:
أولاً: في قوله تعالى:" وما قتلوه يقينًا بل رفعه الله إليه" فالرفع هنا يقابل نفي القتل والصلب, ومعلوم أنّه يجب وقوع التلازم بين المثبت والمنفي وإلا لصار قول الله تعالى من غير معنى وهو مستحيل على الله تعالى, فما أُثبِت بعد "بل" لا بدّ أن يكون ضدًَا لما نُفِي وهو القتل والصلب, ولا يكون هنا إلا الرّفع والقبض إلى السّماء.
ثانيا:" في قوله تعالى أيضا:" وما قتلوه يقينًا" دليل على انتفاء أيّ شبهة للموت, ومعلوم أن النّوم من جنس الموت بدليل آية الزمر, ولو حصل النّوم لكان هناك حصول شبهة وهو ينافي اليقين المذكور في الآية, فإن قيل: قد يتضمّن وجود اليقين مع احتمال النّوم, فالجواب أنّه إنما حدّدنا اليقين بما سبق في الآية من قوله:" مالهم به من علم إلا اتباع الظن", ولو كان المسيح نائمًا وظنّوه مات لما عوتبوا باتباعهم الظنّ لأنهم ليسوا مأمورين بعلم الغيب, فتبيّن انتفاء النوم من أجل انتفاء الظنّ ولوازمه وإثبات اليقين الذي هو الرفع.
ثالثا: قوله تعالى على لسان المسيح عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام:"وكنتُ عليهم شهيدًا ما دمتُ فيهم فلما توفّيتني كنتَ أنت الرقيبَ عليهم" يجري عليها ما يجري على ما ذكرناه في الوجه الأول, فقوله توفيتني تشير إلى تغيّر من الحالة الأولى وهي كونه موجود بينهم, ومقتضاها أي وكنت فيهم شهيدًا, فلما رفعتني من بينهم كنت أنت الرقيب عليهم" ولو كان معنى الوفاة هو النّوم لكان سياق الآية وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما نمت كنت أنت الرقيب عليهم, وهو ليس بسديد فتأمّل, فدل أن معنى الوفاة هنا هو الرّفع والقبض. وهذا جواب أيضًا لمن يقول من أهل القبلة عن وقوع النّوم أو الإغماء على الصّليب.
وقبل أن أتكلّم عن الصّلب واختلاف النّاس في ذلك, هاهنا مسألة أحبّ أن أبيّنها أوّلاً وهو أنّه يجب أن يبيّن الباحث منهجه العلمي في تحقيقه هل هو تقريريّ شرعيّ أم إلزاميّ جدليّ, سواء تصريحًا أم تلميحًا, كما يجب على القارئ أن يدرك ماذا يقصده الباحث, فإنّ الباحث أحيانُا يعمد لتقرير مسألة شرعيّة, وفي خضمّ تقريره يعمد إلى التّسليم بفرضيّة ثم يذهب في دحض استدلالات المسألة الأصليّة بناء على ما سلّمه من صحّة الفرضيّة سواء إلزامًا أم تنزّلاًُ, فيتوهّم القارئ أنّ هذا الباحث يستدلّ على صحّة الفرضيّة لا على دحض المسألة الأصليّة, وهذا من جنس ما حصل للشّيخ الدّاعية أحمد ديدات رحمه اللّه, فإنّ منهجه في إحدى كتبه وهو:"مسألة الصّلب حقيقة أم خرافة" أوهم القارئ أنّ الشّيخ أحمد ديدات يقرّ بحادثة الصّلب وإنّما ينكر موت المسيح على الصّليب, والشّيخ أحمد ديدات اعتمد هنا أوّلاً على التّسليم للنّصارى بصحّة كتبهم, فما استدلّ به لنقض أصل المسألة وهو الموت علىالصّليب جعله يتتبّع مجرى النّصوص المقدّسة ويثبت تناقضها وتضاربها ومن ثمّ بطلانها بناء على أنّ الدّليلين إذا تعارضا تساقطا, وقد تتبّعتُ جميع مسائل كتاب الشّيخ أحمد ديدات, فلم أجده خرج في مسألة من مسائله عن تقريرات الشّيخ رحمة اللّه الهندي في كتابه إظهار الحقّ.
¥