ومن جنس ما وقع للشّيخ أحمد ديدات رحمه اللّه, وقع أيضًا للشّيخ الإمام محمّد رشيد رضا رحمه اللّه في مسألة من نوعها, فإنّه ذهب يفنّد زعم النّصارى في إبطال قيامة المسيح من الأموات وقصّة القبر الفارغ, وذكر أنّه على فرض صحّة ما ثبت للنّاس ما رأوه من تجلّي المسيح لهم بعد حادثة الصّلب, فإنّه لا يبعد أن يكون ما رأوه إنّما هو من خيالات وتصوّرات لا يكون وقوعها من جنس الخوارق والمستحيلات وإنّما وقوعها غير مستبعد, ثمّ شرع في إثبات ذلك بقصص واقعيّة وحوادث وقعت في زمانه وذكر رأي الطّب الحديث وعلم النّفس في ذلك, فجاء بعد ذلك من يطعن في تقرير الشّيخ ويقول أنّ الشّيخ الإمام يقول بعدم رفع المسيح وينكر حياته بعد حادثة الصّلب.
ونعود إلى مسألة الصّلب, وقد بيّنتُ أنّ من قال بوقوع الصّلب وأنّه رفع من على الصّليب وهو في حالة وفاة أو إغماء فإنّه متأوّل لقوله تعالى:"وما صلبوه" على أنّ المراد بذلك ما قتلوه على الصّليب, ويستدلّون بأنّ مجرّد وضعه على الصّليب وعدم كسر أعضائه لا يسمّى صلبًا لأنّه في النّهاية نجا من الموت عليه فهو قد نجا من الصّلب, فمعناه أنّه لم يصلب وهذا هو تصديق الآية. والجواب على هذه الشّبهة من وجوه:
أوّلاً: أنّ ذلك متوجّه لو كان ذكر في الآية نفي القتل دون الصّلب, أما وقوله تعالى:" وما قتلوه وماصلبوه", فهو دليل على انتفاء كليهما, أي القتل وكذا الصّورة أو الهيئة التي تؤدّي إلى ذلك, فالآية واضحة في نفي كليهما.
ثانيًا: تأمّل في قوله تعالى:"وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه", ألا ترى أنّهم زعموا القتل, ولو كان حادثة وضعه على الصّليب محتملة كان ردّ اللّه تعالى مقتصرًا على نفي مازعموا من قتله, لكنّ اللّه تعالى ردّ عليهم بنفي ما قرّروه ومقدّمات ذلك, فهم إنّما اكتفوا بقولهم قتلنا, لأنّ القتل عندهم كان بالصّلب, فاللّه تعالى أخبر بنفي ذلك القتل ونفى حصول مقدّماته.
ثالثًا: قوله تعالى:"ومطهّرك من الذين كفروا" ومقتضى الطّهارة وكمالها أن لا يكون في الهيئة التي حصل له بها حال وضعه على الصّليب من إهانة وشتم وضرب وتسمير وتعرية وما تابع ذلك, ومن سلّم له عليه السّلام باعتلائه الصّليب فقد سلّم له بحصول هذه الإهانات والخزي والعار التي هي مخالفة لوعد اللّه تعالى له بالنّجاه والتّطهير من الذين كفروا. فإن قيل نسلّم باعتلائه الصّلب ولا نجزم بحصول تلك الإهانات, قلنا لهم إنّ مصدر اعتلائه الصّليب هو نفس مصدر حصول تلك الإهانات فكيف تفرّقون بينها وقد جاءت من مصدر واحد وهو الكتاب المقدّس؟
رابعًا: وهو ردّ ثيولوجي, وهو أنّ وقوع الإهانة والألم والشّتم التي هي توابع وضعه على الصّليب هي جزء ممّا يقرّره النّصارى من عقيدة الخلاص وهو الألم والموت من أجل تخليص النّاس من الخطايا, والإسلام جاء بنسف هذا كلّه, فلو حدث اعتلاؤه عليه السّلام الصّليبَ لم تكن حجّة الإسلام قويّة في دحض هذه العقيدة, إذ ردّ مجرّد الموت على الصّليب مع بقاء وجوده على الصّليب لا يمكن أن تكون في معرض الرّدّ القويّ المفحم لعقيدة الصّلب والفداء, إذ قد يكون الإقرار بحصول الصّلب جزء من الإقرار بحصول اللألم والفداء, فتأمّل.
وإلى هنا يتوقّف ما يعتمد عليه عقيدة المسلم من إيمان بالمسيح عليه السّلام, فيكفى المسلم أن يؤمن بأنّه ما قُتل وما صُلب ولكن رفعه اللّه إليه, وبهذا يتعبّد اللّهَ, وليس متعبّدًا أن يعرف ماذا حصل بعد ذلك أو من الذي مات على الصّليب وغير ذلك من توابع المسألة. وما سأضيفه من بيان يفيد في التّحقيق العلمي للمسألة بما يحتاجه الدّعاة إلى اللّه تعالى في هذا الميدان.
بعد أن ذكرتُ اختلاف النّاس القائلين بعدم موت المسيح على الصّليب نعمد إلى مسألة ما بعد الصّلب وما حدث للمسيح عليه السّلام بعده. والقائلون بنظريّة الإغماء اختلفوا فيما حصل للمسيح عليه السّلام بعد ذلك, فقال بعضهم إنّه رفع إلى السّماء بعد إنزاله من الصّليب, وقالت طائفة أنّه عاش حياة عادية وتزوّج من مريم المجدليّة, وقالت القاديانيّة بل هاجر إلى الهند ولم يرفع. والجدير بالذّكر أنّ كفر القاديانيّة ليس من باب أنّهم قالوا بأنّ المسيح أغمي عليه ونجا من الصّلب, فتأويل قوله تعالى:"وماصلبوه" يعني وما قتلوه وإن حصل وضعه على الصّليب ليس تكذيبًا
¥