وقالَ تعالى في آلهةِ المشركينَ المعطِّلينَ: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) [الأعراف: 195]، فجعلَ سُبحانَهُ عدمَ البطشِ والمشيِ والسمعِ والبصرِ دليلاً على عدمِ إلهيَّةِ مَنْ عُدِمَتْ فيهِ هذهِ الصِّفَاتُ، فالبطشُ والمشيُ منْ أنواعِ الأفعالِ، والسمعُ والبصرُ منْ أنواعِ الصِّفَاتِ.
وقدْ وصَفَ نفسَهُ سُبحانَهُ بضدِّ صفةِ أربابِهم، وبضدِّ ما وصَفَهُ بهِ المُعَطِّلَةُ والجهمِيَّةُ، فوصفَ نفسَهُ بالسمعِ والبصرِ والفعلِ باليدَيْنِ والمجيءِ والإتيانِ، وذلكَ ضدُّ صفاتِ الأصنامِ التي جعلَ امتناعَ هذهِ الصِّفَاتِ عليها مُنافياً لإلهيَّتِها.
فتأمَّلْ آياتِ التوحيدِ والصِّفَاتِ في القرآنِ على كثْرَتِها وتفنُّنِها واتِّسَاعِها وتنوُّعِها كيفَ تجدُها كلَّها قدْ أثبتَت الكمالَ للموصوفِ بها، وأنَّهُ المتفرِّدُ بذلكَ الكمالِ؟ فليسَ لهُ فيهِ شَبَهٌ ولا مثالٌ، وأيُّ دليلٍ في العقلِ أوضحُ منْ إثباتِ الكمالِ المُطْلَقِ لخالقِ هذا العالمِ ومُدَبِّرِهِ، وملكِ السَّماوَاتِ والأرضِ وقيُّومِها، فإِذَا لمْ يكُنْ في العقلِ إثباتُ جميعِ أنواعِ الكمالِ لهُ فأيُّ قَضِيَّةٍ تَصِحُّ في العقلِ بعدَ هذا، ومَنْ شَكَّ في أنَّ صفةَ السمعِ، والبصرِ، والكلامِ، والحياةِ، والإرادةِ، والقدرةِ، والغضبِ، والرضا، والفرحِ، والرحمةِ، والرأفةِ كمالٌ، فهوَ مِمَّنْ سُلِبَ خاصَّةَ الإنسانيَّةِ، وانسلخَ من العقلِ، بلْ مَنْ شَكَّ أنَّ إثباتَ الوجهِ واليدَيْنِ وما أثبَتَهُ لنفْسِهِ معهما كمالٌ، فهوَ موؤُوفٌ مُصَابٌ في عقلِهِ، ومَنْ شكَّ أنَّ كونَهُ يفعلُ باختيارِهِ ما يشاءُ، ويتكَلَّمُ إذا شاءَ وينزلُ إلى حيثُ شاءَ ويجيءُ إلى حيثُ شاءَ كمالٌ، فهوَ جاهلٌ بالكمالِ، والجامدُ عندَهُ أكملُ من الحيِّ الذي تقومُ بهِ الأفعالُ الاختياريَّةُ.
- كما أنَّ عندَ شقيقِهِ الجهميِّأنَّ الفاقدَ لصفاتِ الكمالِ أكملُ من الموصوفِ بها.
- كما أنَّ عندَ أُسْتَاذِهِما وشيخِهِما الفيلسوفِ أنَّ مَنْ لا يسمعُ، ولا يُبصرُ ولا يعلمُ، ولا لهُ حياةٌ، ولا قدرةٌ، ولا إرادةٌ، ولا فعلٌ، ولا كلامٌ، ولا يُرسِلُ رسولاً، ولا يُنزِلُ كتاباً، ولا يتصرَّفُ في هذا العالمِ بتحويلٍ وتغييرٍ، وإزالةٍ ونقلٍ، وإماتةٍ وإحياءٍ أكملُ ممَّنْ يتَّصِفُ بذلكَ.
فهؤلاءِ كلُّهم قدْ خالَفُوا صريحَ المعقولِ، وسلَبُوا الكمالَ عمَّنْ هوَ أحقُّ بالكمالِ منْ كلِّ ما سواهُ، ولمْ يكْفِهم ذلكَ حتَّى جعلوا الكمالَ نقصاً، وعدَمَهُ كمالاً، فعكَسُوا الأمرَ، وقلَبُوا الفِطَرَ، وأفسدُوا العقولَ.
فتأمَّلْ شُبَهَهم الباطلةَ، وخيالاتِهِم الفاسدةَ التي عارَضُوا بها الوحيَ هلْ تُقَاوِمُ هذا الدليلَ الدَّالَّ على إثباتِ الصِّفَاتِ والأفعالِ للربِّ سُبحانَهُ؟ ثمَّ اخْتَرْ لنفسِكَ بعدُ ما شِئْتَ.
وهذا قطرةٌ منْ بحرٍ نبَّهْنَا بهِ تنبيهاً يَعلمُ بهِ اللبيبُ ما وراءَهُ وإلاَّ فلوْ أعطَيْنَا هذا الموضعَ حقَّهُ –وهيهاتَ أنْ يَصِلَ إلى ذلكَ عِلْمُنا أوْ قُدْرَتُنا – لكتَبْنَا فيهِ عِدَّةَ أسفارٍ ... واللَّهُ المستعانُ، وبهِ التوفيقُ) ([6] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn6)).
([1]) إشارة إلى حديث رواه الإمام أحمد (27064): قال: حدثنا محمد بن بكر , أخبرنا عبيد اللَّه بن أبي زياد , قال: حدثنا شهر بن حوشب , عن أسماء بنت يزيد , قالت: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) و (الم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم) إن فيهما اسم اللَّه الأعظم.
وفيه شهر بن حوشب مختلف فيه؛ تركه يحيى بن سعيد القطان , وشعبة , وابن عون , وطعنا فيه.
ووثقه يحيى بن معين، وقال البخاري: حسن الحديث. وقال الإمام أحمد وأبو زرعة: ليس به بأس. على أن للحديث شاهداً عند ابن ماجه (3899) في كتاب الدعاء/ باب اسم اللَّه الأعظم , من حديث القاسم , عن أبي أمامة مقطوعاً ومرفوعاً.
وعند الدارمي في كتاب فضائل القرآن (3393) من طريق جابر عن أبي الضحى , عن مسروق , عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه مرفوعاً.
([2]) إشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه , وقد أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن / باب فضل (قل هو الله أحد) (5014) والنسائي في كتاب الافتتاح / باب الفضل في قراءة (قل هو الله أحد) (994) , وأبو داود في كتاب الصلاة / باب في سورة الصمد (1461).
وفي الباب أحاديث أخر عن أبي هريرة , وأنس بن مالك , وأبي أيوب الأنصاري , وأبي مسعود , وأبي الدرداء , وغيرهم رضي اللَّه عنهم.
([3]) رواه الإمام أحمد (11795) , والترمذي في كتاب الدعوات / باب خلق اللَّه مائة رحمة (3544) , وأبو داود في كتاب الصلاة / باب الدعاء (1492) , وابن ماجه في كتاب الدعاء / باب اسم اللَّه الأعظم (3858) , من طرق عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه، وزيادة: " يا حي يا قيوم " عند أبي داود فقط.
([4]) رواه الترمذي في كتاب الدعوات / باب جامع الدعوات عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم (3475) , وابن ماجه في كتاب الدعاء / باب اسم اللَّه الأعظم (3857) من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي اللَّه عنه.
([5]) سبق تخريجه.
([6]) الصواعق المرسلة (909 - 917).