فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو الرشوة يأخذها من مال أو منفعة فقد خان الله ورسوله والمؤمنين .. – إلى أن قال: - ثم إن المؤدي للأمانة مع مخالفته هواه يثبته الله فيحفظه في أهله وماله بعده والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله، أو يذهب ماله، وفي ذلك الحكاية المشهورة: أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك، فقال أدركت عمر بن عبد العزيز، قيل له: يا أمير المؤمنين أفقرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم – وكان في مرض موته – فقال أدخلوهم عليّ، فأدخلوهم وهم بضعة عشر ذكراً ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال لهم: لا بني والله ما منعتكم حقا هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أخلف له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني، فقال: فلقد رأيت بعض بنيه حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها.
قلت – ابن تيمية -: هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى المشرق – بلاد الترك – إلى أقصى المغرب – بلاد الأندلس -، ومن جزائر قبرص وثغور الشام إلى أقصى اليمن، وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئاً يسيراً يقال: أقل من عشرين درهماً.
قال: وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه، فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس – أي يسألهم بكفه -.
وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب (16).
4_ طرق ثبوت الإمامة:
تنعقد الإمامة بثلاثة طرق:
أحدها: اختيار أهل الحل والعقد:
يقول أبو يعلى الفراء عن هذه الطريقة: «فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد» (17)، وقال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: «الإمام الذي يجتمع قول أهل السنة والجماعة عليه كلهم يقول هذا الإمام» (18).
وقال النووي عن هذا المسلك: «البيعة كما بايعت الصحابة أبا بكر رضي الله عنه، وفي العدد الذي تنعقد الإمامة ببيعتهم ستة أوجه ... أصحها أن المعتبر بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذي يتيسر حضورهم» (19).
الطريق الثاني: الاستخلاف، وهو يعقد له في حياته الخلافة بعده:
قال أبو يعلى: «ويجوز أن يعهد إلى إمام بعده، ولا يحتاج في ذلك إلى شهادة أهل الحل والعقد، وذلك لأن أبا بكر عهد إلى عمر - رضي الله عنهما -، وعمر عهد إلى ستة من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولم يعتبر في حال العهد شهادة أهل الحل والعقد .. » (20).
الطريق الثالث: القهر والغلبة:
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في رسالة عبدوس بن مالك: «والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ممن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن خر جعليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين» (21).
وقال ابن بطال: «وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء؟؟» (22).
وقال النووي: «وأما الطريق الثالث: فهو القهر والاستيلاء: فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعاً للشرائط بأن كان فاسقاً، أو جاهلاً فوجهان: أصحها: انعقادها لما ذكرناه، وإن كان عاصياً بفعله» (23).
الهوامش