ثم جاء من رفع راية الإصلاح، وصاحبَ المحتل، وأحل الربا في شكل صناديق التوفير، وأباح التشبه بالكفار في الفتوى الترنسفالية المشهورة، وهاجم الأزهر. وساهم في إنشاء جمعية مشبوهة للحوار بين الأديان، كل هذا بدعوى الإصلاح.
ثم في العقود الوسطى من القرن العشرين جاء بعض المنهزمين .. المنبهرين وعمد إلى كتاب الله يفسره بما يتفق مع (العلم الحديث) فزعم أن الطير الأبابيل التي ترمي بحجارة من سجيل هي الطاعون، وأن آية الدم التي أرسلت على فرعون وقومه هي البلهارسيا!!
وبعد ما عرف تاريخيا بحقبة الثورات وظهور (القومية العربية) عاد المنهزمون ثانية ليكتبوا عن (اشتراكية الإسلام) وأن (الوطنية) من الإسلام.!!
وهم اليوم كُثر. وفقط أريد تشخيص الداء ولا يعنيني الأشخاص في هذا المقام.
قضيتهم الأولى هي تحسين صورة الإسلام أمام (الآخر) و (تيسير) الأحكام الشرعية ليتقبلها الناس، وذلك بتبني خطاب (ليبرالي) يتماشى ومتطلبات العصر بزعمهم،.
ولم أقصد هنا تتبع الخط التاريخي لهذا الفكر، وإنما أردت أن أشخص هذه الحالة لعلاجها أو كشفها ومن ثم عزلها. إن أبت تناول العلاج.
أنا لا أتكلم عن علماء السلطان، ولا مثقفي البلاط الذين يبحثون عن لقمة عيشهم في التحليل والتحريم بالتأويل للسلطان وتنتهي صلاحيتهم بمجرد خروجهم من البِلاط، وإنما عنيت من تصدوا لتوجيه الأمة وترشيدها بزعمهم. وظهروا للناس بمظهر الناصح الأمين، وظني أنهم صادقون، ولكن كم من مريد للخير لا يبلغه.
هي نفوس تريد الإصلاح وتريد الخير للأمة ـ كما يبدوا لي من تتبع أحوالهم ـــ إلا أنها نظرت إلى حال الأمة الإسلامية اليوم وكيف وهَنُهَا وانحرافها، ونظرت إلى حال العدو وكيف قوته وتقدمه المادي فراحت تقرب وتألف وتخط طريقا وسطا بين الطريقين.
وفي كل الأحوال فإن هذا الطريق الجديد ليس هو صراط الله المستقيم. إذ أن (حلول الوسط في خلاف بين حق محض صراح وباطل محض صراح هي بالبداهة ترجيح للباطل وهضم للحق).
وقل نفس الكلام على كتاب الصحف والمجلات اليوم الذين يدعون الاعتدال في الطرح فيتخذون خطا بين الصحوة والعلمانيين مدعين الاعتدال والحرص على مصلحة الناس، و (العقلانية) و (الليبرالية الإسلامية). .. الخ.
وقل مثل هذا على التجمعات (أو الجماعات) العاملة في مجال الدعوة التي تمسك العصى من المنتصف بدعوى السياسة والكياسة ... الخ.
أقول قد تكفي حسن النية لرفع العقوبة أو تخفيفها عن الفاعل، ولكنها لا تكفي أبدا لتبرير الخطأ وتمريره، فإذا سلمنا ـــ جدلا ـــ أن الأشخاص معذورون، وأنهم كانوا يريدون الخير لأمتهم فهذا لا يعني أبدا تحسين فعالهم، فمهما قيل من تأويلات فليس هناك ما يسمح لنا بزحزحة الشريعة ليتقبلها (الآخر) ويرضى عنا، وليس لنا أصلا أن ننظر للآخر ونرى ما يريد ثم ننظر للدين فهذا منطلق أهل الهوى. مهما قيل فليس لنا أن نُعْمِل مِشْرَط التأويل لتجميل الدين كي يتقبله المتفلتون من التكاليف المنشغلون بدنياهم.
وليس لنا أن ننزل على النصوص ونفهمها من تلقاء أنفسنا، فنحن ملزمون ليس فقط بالوحيين ــ القرآن والسنة ـــ وإنما أيضا بما فهمه الصحابة من الخطاب القرآني. " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا "
وهذا النوع لا يقل خطورة عن النوع الأول ــ العقلانيين ــ، بل هو أشد خطرا منه، لأنه يرفع شعارات براقة تخدع العامة، ويدّعي التسامح والرفق بالناس. وهو في حقيقة الأمر يعدل المفاهيم الإسلامية نزولا على رغبة الجماهير أو استرضاءً للغير أو هروبا من تكاليف لا يحصيها لكسله وخوره، وهو خطير لأنه يتكلم من الداخل، والرد عليه يبدوا عند كثيرين نوع من (التشدد) والانشغال بالداخل على حساب الخارج.
لا أريد الاسترسال، فقط أردت لفت النظر إلى قراءة العقول وفهم الدوافع والخلفيات. والله أسأل أن يبارك لي في كلماتي، وأن ينفع بها.