أ - أن هناك فرقا بين الكلام على حكم الموالاة المطلقة , وبين الكلام على حكم بعض أفرادها , فجنس الولاء والبراء مرتبط بأصل الإيمان فمن لا موالاة عنده للمؤمنين ولا معاداة عنده للكفار فليس معه شيء من الإيمان , وهذا أمر دل عليه العقل والواقع فضلا عن دلالة النصوص عليه , فلا شك في ثبوته , ولا منازعة في حكمه.
فمن تكلم عن الولاء للكفار على هذه الجهة - أعني على جهة الموالاة المطلقة - فلا بد أن ينفي الإيمان عمن حصلت منه , لأن حصولها على هذه الجهة ينافي أصل الإيمان.
ومن يتأمل كلام ابن تيمية في هذه النصوص الثلاثة يدرك أنه يتكلم عن موالاة الكفار من هذه الجهة - الموالاة المطلقة - , فكلامه إنما هو في تقرير أن الموالاة المطلقة تنافي أصل الإيمان , وأن الموالاة المطلقة للمسلمين من ضروريات الإيمان , وهذا أمر صحيح , وليس هو محل البحث , إذ محله في الموالاة العملية فقط , فالموالاة العملية ليست هي الموالاة المطلقة , بل هي جزء منها , وحكم الكل لا ينطبق على الجزء , وحكم الجزء لا ينطبق على حكم الكل , وبيان ذلك: أن ترك كل الصلاة كفر أكبر , وهذا الحكم لا ينطبق على الترك الجزئي كما هو معلوم.
وعلى هذا فلا يصح أن نأخذ من هذه النصوص أن ابن تيمية يكفر بالموالاة العملية للكفار , والسبب في ذلك هو أن ثمة فرقا بين الكلام على الموالاة المطلقة وبين الكلام على نوع واحد منها وهو النوع العملي , فما كان منطبقا على الموالاة باعتبار إطلاقها لا يلزم أن يكون منطبقا على كل فرد منها.
وهذه - أعني التفريق بين الكلام على الشيء باعتباره مطلقا وبين الكلام على أفراده - أصل مُطبق عند العلماء ومنهم ابن تيمية , وسأضرب عليه مثلين من كلام ابن تيمية نفسه , وهما:
المثل الأول: ما سبق ذكره في شأن الصلاة.
والمثل الثاني: ما ذكره ابن تيمية من أن من لم ينكر المنكر بقلبه فليس معه شيء من الإيمان , ومن ذلك قوله:"فمن لم يستحسن الحسن المأمور به ولم يستقبح الشيء المنهي عنه لم يكن معه من الإيمان شيء , كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" , وكما قال في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من نبى بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" رواه مسلم.
فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب , فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر الذي يبغضه الله ورسوله لم يكن معه من الإيمان شيء" ([18]).
فابن تيمية يقرر في هذا النص أن من لم ينكر المنكر بقلبه فليس معه شيء من الإيمان , واستدل بالأحاديث المشهورة , وهذا الكلام صحيح , ولكن ليس من لازمه أن من لم ينكر منكرا معينا بقلبه فالإيمان منتفي عنه , فلا يصح أن نقول إن ابن تيمية يكفر من لم ينكر منكرا معينا بقلبه بناءا على هذا النص , لأن كلامه هنا إنما هو في عدم الإنكار المطلق لا في عدم الإنكار المعين ,
إذن لا بد لنا أن نفرق بين مقامات الكلام في بحث مسألة ما , فإن المسألة المعينة يختلف الكلام عليها باختلاف المقامات.
5 - ومن ذلك ما نسبه الشيخ عبد اللطيف إلى ابن تيمية بقوله:" قال شيخ الإسلام في اختياراته: من جمز إلى معسكر التتر، ولحق بهم، ارتد وحل ماله ودمه " ([19]).
والكلام على هذا النص هو أن يقال: لا شك أنه صريح في الحكم على الموالاة العملية بكونها ردةً , ولكن هذا النص ليس من نص كلام ابن تيمية فيما يظهر , وهذا النص نسبه إلى ابن تيمية الشيخ / عبد اللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ , وذكر أنه في الاختيارات الفقهية , ولم أجد هذا النص بعد البحث في مظانه.
¥