وفي "صحيح مسلم" في حديث أبي ذر الطويل: " يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا" ().
وفي "السنن" عن علي – رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يقول في آخر وتره:" اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" ().
وتقدم ذكر حديث ابن مسعود في "المسند" مرفوعاً: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك" ().
فهذه النصوص واضحة في أن المراد بالنفس هو الله -تعالى- كما قلنا.
ولا يخالف ذلك ما قاله ابن خزيمة والأئمة؛ لأن مقصودهم إثبات ما أثبته الله من غير تعرض له بتأويل أو تمثيل، تعالى الله عن الأمثال والأنداد، والتمسك بالنصوص التي قالها الله ورسوله، مع الإعراض عما يقوله أهل التأويل، وأصحاب
الوساوس الشيطانية، التي تعود على النصوص بالإبطال، وحسب المسلم أن يسعه ما وسع السلف الصالح من الصحابة، ومن سلك طريقهم.
وليس معنى ذلك الإعراض عن معاني النصوص، كما يتوهمه بعض الناس من مذهب السلف، ويعبرون عنه بالتفويض.
بل المقصود إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، مع فقه المعنى اللائق بعظمة الله -تعالى- وفهمه، على ما دل عليه قوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ونحوها من الآيات المحكمات، والأمر في هذا واضح لمن تمسك بالكتاب والسنة. روى ابن جرير، عن مجاهد، في قوله -تعالى-: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} ().
قال: من نفسي. وأصله عن ابن عباس.
وروي عن أبي صالح: {أكاد أخفيها} قال: يخفيها من نفسه.
وعن قتادة: {أكاد أخفيها} – وهي في بعض القراءات:" أخفيها من نفسي" () -: "لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء المرسلين" ().
وقال ابن كثير:" أكاد أخفيها" قال الضحاك: عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: "أكاد أخفيها من نفسي"، يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً، وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس، "من نفسه"، وكذا قال مجاهد وأبو صالح، ويحيى بن رافع.
وقال السدي: ليس أحد من أهل السماوات والأرض، إلا وقد أخفى الله عنه علم الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود:" إني أكاد أخفيها من نفسي" ().
وقال ابن جرير في قوله -تعالى-: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، يقول: إنك يا رب لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لا أنطق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما نطقت به وأظهرته بجوارحي، لو كنت قد قلت للناس:
{اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} كنت قد علمته، لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما نطقت به؟ {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لأني إنما أعلم من الأشياء ما علمتنيه" ().
وقال في قوله -تعالى-: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} " أنعمت عليك – يا موسى – هذه النعم، ومننت عليك هذه المنن، اجتباء مني لك، واختباراً لرسالاتي، والبلاغ عني، والقيام بأمري ونهيي" ().
وقال ابن كثير: "أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي كما أريد وأشاء" ().
وقال ابن سعيد الدارمي: "وادعى المعارض: أن الله لا يوصف بالضمير، والضمير منفي عن الله، وهي كلمة خبيثة قديمة، من كلام جهم، عارض بها جهم قول الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، يدفع بذلك أن يكون الله -تعالى- سبق له علم في نفسه من الخلق وأعمالهم قبل أن يخلقهم.
فرد عليه بعض العلماء، وقالوا: كفرت بها من ثلاثة أوجه:
الأول: أنك نفيت عن الله العلم السابق في نفسه قبل حدوث الخلق.
الثاني: أنك استجهلت المسيح ابن مريم – عليه السلام – بأنه وصف ربه بأن له خفايا علم في نفسه، إذ يقول: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}.
الثالث: أنك طعنت به على محمد –صلى الله عليه وسلم- إذ جاء به مصدقاً لعيسى ..
قال أبو سعيد: "وقول جهم هذا أصل كبير في تعطيل النفس والعلم السابق، ويرد عليه بقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، فذكر المسيح أن لله علماً سابقاً في نفسه، يعلمه الله، ولا يعلمه هو".
ثم روى عن أبي البحتري أنه قال: " لا يقولن أحدكم: اللهم أدخلني مستقر رحمتك، فإن مستقر رحمته نفسه" ().
¥