لكن على أي حال لا يخفى على أحد أن نقد ما في كتب الأئمة الثقات ينبغي أن يحصل ممن تأهل لذلك فنقدهم ممن دون ذلك نتيجته في الغالب مصيبة كبيرة وإثم عظيم، ولا يعني في المقابل أننا نرى العصمة في هؤلاء الأئمة حاشا لله، وإن وقع في كلام بعض الجهلة شيء من هذا فنحن نبرأ منه ونقول ما قاله ابن القيم:
ورسوله فهو المطاع وقوله المـ ... ـقبول إذ هو صاحب البرهان
والأمر منه الحتم لا تخيير فيـ ... ـه عند ذي عقل وذي إيمان
من قال قولا غيره قمنا على ... أقواله بالسبر والميزان
ان وافقت قول الرسول وحكمه ... فعلى الرؤوس تشال كالتيجان
أو خالفت هذا رددناها على ... من قالها من كان من إنسان
هذا الذي أدى اليه علمنا ... وبه ندين الله كل أوان
فهو المطاع وأمره العالي على ... أمر الورى وأوامر السلطان
وهو المقدم في محبتنا على الـ ... أهلين والأزواج والولدان
وعلى العباد جميعهم حتى على النـ ... ـفس التي قد ضمها الجنبان
مسألتنا هي: هل عين العلة الغائية-يعني نفس وجودها الخارجي- علة فاعلية للعلة الفاعلية؟ وكذا هل نفس وجودها الخارجي سابق للعلة الفاعلية؟
أم أن تصور الفاعل للعلة الغائية وإرادته لها هو العلة الفاعلية للعلة الفاعلية-بمعنى أنه بهذا التصور والإرادة صار فاعلا لها فلولا تصور الغاية وإرادته لها لما كان فاعلاً لها- وهذا التصور هو السابق للعلة الفاعلية وشرط لها لا نفس الوجود الخارجي للغاية هو السابق؟؟
ذكر الأخ عيد أن القول الأول مشهور في كتب الفلاسفة وأشهرهم ابن سينا والثاني هو قول أهل السنة -مع سائر العقلاء وجمهور الفلاسفة- وقد أصاب في هذا.
ولكنه وقع في خطأ فاحش أعقبه تسرع عجيب وبتر لبعض النصوص بغير قصد إن شاء الله!!، حيث زعم أن شيخ الإسلام قد قال بقول ابن سينا لأنه وجد في كتب ابن تيميه هذه الجملة: "العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية" ثم ذكر أن شيخ الإسلام وافق القول الثاني الصحيح في درء التعارض!! ولم يعلم أن مراد شيخ الإسلام من تلك الجملة غير مراد ابن سينا فمراد ابن تيميه تصور العلة ومراد ابن سينا الوجود الخارجي لها، فليس له أكثر من قول أصلاً وليس هذا والله من إفتراضي، بل هذا من نفس النصوص التي أحال عليها الأخ عيد!!
فقد نقل الأخ عيد وفقه الله النقل الآتي عن رسالة الزهد والورع:
((فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهى التي في النفس هي المحركة للانسان الآمرة له ولهذا يقال العلة الغائية علة فاعلية فإن الانسان للعلة الغائية بهذا التصور والارادة صار فاعلا للفعل وهذه الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاعلا فيكون الانسان متبعا لها والشيطان يمده في الغي فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس اتباعها وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة))
فهل بقي من يفهم ما يقول من يزعم أن ابن تيميه يقول أن عين العلة الغائية-يعني نفس وجودها الخارجي- علة فاعلية للعلة الفاعلية؟ أم تصورها وإرادتها كما هو نص وصريح قوله؟؟
سبحانك هذا بهتان عظيم!!
قال الأخ عيد:
((وقد كرر شيخ الإسلام رحمه الله هذا المعنى في أكثر من موضع في كتبه وفتاواه.
فقال في مجموع الفتاوى (18/ 309):
"ولهذا كانت العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية")) انتهى كلام الأخ عيد
أقول: والنص كاملاً غير مبتور هو:
((ثم لا بد أن يتعلق بها علتان: إحداهما السبب وهي العلة الفاعلة والثاني الحكمة: وهي العلة الغائية. فذلك هو العلم والإرادة للأمور الأولية. فإن السبب والفاعل أدل في الوجود العيني. والحكمة والغاية أدل في الوجود العلمي الإرادي؛ ولهذا كانت العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية. وكانت هي في الحقيقة علة العلل لتقدمها علما وقصدا وأنها قد تستغني عن المعلول والمعلول لا يستغني عنها وأن الفاعل لا يكون فاعلا إلا بها وأنها هي كمال الوجود وتمامه)) انتهى
أقول: هل بقي ممن يفهم لغة العرب من يزعم أن ابن تيميه يقول أن وجود الغاية الخارجي علة للفاعلية أم تصورها وإرادتها كما هو نص وصريح قوله؟؟
سبحانك هذا بهتان عظيم!!
فهل يصح أن يقال في الإستدراك على كلام ابن تيميه السابق ما قاله الأخ عيد: ((لأن ذلك يستلزم إما التسلسل في العلل وإما الدَّور وكلاهما ممتنع عقلا، ولكنهم يقولون-أي اهل السنة-: إن السابق في الذهن هو تصور العلة وإرادتها وليس ذاتها)) فاللهم اغفر لأخي عيد!!
ثم أختم بالنقل عن الدرء النص الذي وافقنا فيه الأخ عيد ليتأمله المتأمل ليجد أن كلام ابن تيميه هو هو لم يتغير:
قال في الدرء 10/ 51 - 52: ((والفلاسفة مع سائر العقلاء متفقون على هذا ويقولون أول الفعلة آخر العمل وأول البغية آخر الدرك ويقولون العلة الغائية هي أول في التصور آخر في الوجود وجمهور العقلاء يقولون السابق هو تصور العلة الغائية وإرادتها وأما ابن سينا ونحوه من الفلاسفة فيقولون بل نفس العلة هي السابقة في الذهن [وهذا خلط منه بين نفس وجود العلة الغائية الخارجي وبين تصورها فجعل نفس الوجود الخارجي هو هو في الذهن! وهو خلط يليق بابن سينا وأمثاله كما سيبينه ابن تيميه في آخر النص] ويقولون العلة الغائية [يعني نفس وجودها الخارجي] علة فاعلية للعلة الفاعلية، وجمهور العقلاء لا يجعلونها علة فاعلية بل يقولون تصور الفاعل لها وإرادته لها به صار فاعلا فلولا تصور الغاية والإرادة لها لما كان فاعلا فتصورها وإرادتها شرط في كون الفاعل فاعلا وهي مقدمة في التصور والإرادة وإن تأخرت في الوجود ففي الجملة العاقل الفاعل فعلا باختياره يتصور ما يريد أن يفعله في نفسه ثم يوجده في الخارج فتلك الصورة الموجودة في الخارج بفعله ليست هي الصورة المعقولة في ذهنه كمن أراد أن يصنع شكلا مثلثا أو مربعا أو يصنف خطبة أو يبني دارا أو يغرس شجرا أو يسافر إلى مدينة فإنه يتصور ما يريده ابتداء فتكون له صورة عقلية في نفسه قبل صورته التي توجد في الخارج وهو معنى قولهم أول البغية آخر الدرك أي أول ما تبغيه فتريده وتطلبه هو آخر ما تدركه وتناله))
والله أعلم
¥