واعلم - أخي القارئ - أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فما أمرها به، أو نهاها عنه، أو بلّغها عن ربها، بل انقادت، وسلمت، وأذعنت. وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، وقد كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارفاً وعلوماً لا تسأل نبيها لمَ أمر الله بذلك؟ ولمَ نهى عن ذلك؟ ولَم فعل ذلك؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام". (4)
ولقد كان نبينا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه -رضي الله عنهم- على التسليم لله تعالى وآياته وإجلال النصوص الشرعية وتعظيمها، ولقد خرج -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهم يقولون: ألم يقل الله كذا وكذا، يرد بعضهم على بعض، فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان من الغضب، ثم قال: "ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم". رواه أحمد والترمذي.
وقد ضرب الصحابة -رضي الله عنهم- أروع الأمثلة في التسليم والإجلال للنصوص الشرعية، فهذه امرأة تقدم على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وتسألها، فتقول: "ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة: أحرورية أنت؟ فقالت المرأة: لست حرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة". رواه مسلم.
ويحدث عمران بن حصين -رضي الله عنه- فيقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"الحياء كله خير. فيقول أحدهم: إنا لنجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعف. قال فغضب عمران حتى احمرت عيناه، وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعارض فيه. قال فأعاد عمران الحديث، وأعاد الرجل مقالته، فغضب عمران، حتى قال الحاضرون له: إنه منا يا أبا نجيد، إنه لا بأس به". أي ليس ممن يتهم بنفاق أو زندقة. رواه مسلم.
وقد التزم سلف هذه الأمة هذا المنهج، واعتنوا أيما عناية بتحقيقه، فها هو الأوزاعي -رحمه الله- يقول: "من الله تعالى التنزيل، وعلى رسوله التبليغ، وعلينا التسليم" (5)
وقال رجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " ليس منا من لطم الخدود وليس منا من لم يوقر كبيرنا" وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة ثم رفع رأسه فقال: من الله -عز وجل- العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم". (6)
ولما ذكر ابن المبارك حديث " لا يزني الزاني وهو مؤمن .. "، فقال فيه قائل: ما هذا؟ على معنى الإنكار. فغضب ابن مبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان (كثير الكلام والشكوى) أن نحدث بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. (7)
وكان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد بحديث أبي هريرة: "احتج آدم وموسى" فقال أحد الحاضرين: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ قال: فوثب هارون، وقال: يحدثك عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعارض بكيف؟! فما زال يقول حتى سكت عنه.
يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني -رحمه الله- معلقاً على هذه القصة: "هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد - رحمه الله - مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بـ " كيف" على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-". (8)
إن الناظر إلى واقع المسلمين الآن، يرى ما يدمي القلب، ويورث الحزن، وذلك بسبب ما قد يقع فيه الكثير من المسلمين تجاه النصوص الشرعية، من جفاء للنص، وهجران للسنة، بل ومعارضة النص الشرعي المعصوم بمعقول أو ذوق أو قياس أو سياسة ... ألا فليتق الله أولئك القوم، فإنه والله يخشى على هؤلاء أن يكون لهم نصيب من هذا الوعيد الشديد في الآية الكريمة:
¥