((فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [النور 63]
يقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: " عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان - أي الثوري - والله تعالى يقول:
((فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ)) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
2 - الإيمان بجميع ما جاء عن الله تعالى وما صح عن رسوله-صلى الله عليه وسلم-:
من سمات أهل السنة الإيمان بجميع ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كحال أهل الكتاب، ومن شابههم من أهل الأهواء، فأهل الحق يؤمنون بالله وبما جاء عن الله على مراد الله كما يؤمنون بالرسول -صلى الله عليه وسلم- على مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
يقول تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) [البقرة 208]
أي فإن الله تعالى يأمر عباده والمؤمنين به أن يأخذوا بجميع شرائع الإسلام جملة وتفصيلاً، وقال سبحانه:
((والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)) [آل عمران:7]
إن إيمان أهل السنة بجميع النصوص الثابتة في مسألة ما قد أورثهم الخيرية الوسطية بين الفرق، كما كانت هذه الوسطية سبباً في هداية الله لهم فيما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإيمانهم - مثلاً - بنصوص الإثبات مع التنزيه في باب صفات الله تعالى جعلهم وسطاً عدلاً بين المعطلة والمشبهة، كما أن إيمانهم بنصوص الوعد والوعيد جعلهم وسطاً بين الوعيدية والمرجئة، وإيمانهم بالنصوص التي تضمنت إثبات قدرة الله وخلقه ومشيئته مع النصوص التي تثبت للعبد فعلاً ومشيئة .. أورثهم المسلك الوسط الخيَّر بين القدرية النفاة والجبرية، وكذا إيمانهم بجميع النصوص الصحيحة في فضائل الصحابة جعلهم وسطاً بين الروافض والخوارج.
وقد حرص سلف الأمة على تطبيق هذا الأصل، فكانوا أهل الوسطية والاعتدال، ومثال ذلك أن الزهري - رحمه الله - حدّث بحديث الرجل المسرف على نفسه، والذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بالنار - جهلاً منه بقدرة الله - فبعثه الله وسأله عن سبب صنيعه فقال هذا الرجل: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك. ثم حدّث الزهري بحديث المرأة التي دخلت النار في هرة، لا هي أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً. رواه مسلم.
ثم قال الزهري: لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل.
قال النووي: "معناه لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه من سعة الرحمة وعظم الرجاء، فضم إليه حديث الهرة الذي فيه من التخويف ضد ذلك ليجتمع الخوف والرجاء، وهذا معنى قوله "لئلا يتكل ولا ييأس" وهكذا معظم آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء لئلا يقنط أحد ولا يتكل." (9)
وجاء رجل إلى الحسن البصري -رحمه الله- يسأله عن فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وكان ذلك في أيام فتن - فذكر الحسن حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه، أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقال بحق". (10)
ثم أتبعه الحسن بحديث آخر فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ليس لمؤمن أن يذل نفسه، قيل: يا رسول الله، وما إذلاله لنفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق". (11)
واعلم - يا أخي - أن الإيمان بجميع النصوص يقتضي تحقيق البلاغ المبين لها، فدين الله تعالى لجميع المكلفين، يقول الشاطبي: "الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة. كما في النصوص المتضافرة كقوله تعالى:
((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًاً))
وقوله:
((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً))
وقوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت إلى الأحمر والأسود ... " (12)
ولكن لا يعني هذا الإخبار بكل نص ولكل مكلف بإطلاق ... بل لا بد من التنبيه إلى أمر مهم يبينه الضابط التالي:
¥