يقول ابن القيم (رحمه الله): (فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها فإنها أصل البلاء، فإذا سمع ضعيف المعرفة والعلم بالله (تعالى) لفظ: اتصال وانفصال، ومسامرة ومكالمة، وأنه لا وجود في الحقيقة إلا وجود الله، وأن وجود الكائنات خيال ووهم، وهم بمنزلة وجود الظل القائم بغيره: فاسمع منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات، والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها، وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسهم فخلط الغالطون في فهم ما أرادوه ونسبوه إلى إلحادهم وكفرهم واتخذوا كلماتهم المتشابهة تُرساً لهم وجُنة) (7).
الفريق الثاني: أهل الكلام: الذين استخدموا مصطلحات محدثة مجملة في مجادلتهم مع الملاحدة والفلاسفة ونحوهم.
يقول ابن تيمية (رحمه الله): (وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة (المبتدعة) كلفظ الجسم والجوهر والعَرَض وحلول الحوادث ونحو ذلك، كانوا يظنون أنهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله، فوقع منهم من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك، وهذه حال أهل البدع كالخوارج وأمثالهم، فإن البدعة لا تكون حقاً محضاً موافقاً للسنة، إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلاً، ولا تكون باطلاً محضاً لا حق فيه، إذ لو كانت كذلك لم تخْفَ على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل: إما مخطئاً غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد) (8).
3 - استخدام المصطلحات المحدثة:
لابد أن يحرص المسلم على استخدام المصطلحات الشرعية، أما المصطلحات المحدثة فلابد من عرضها على الكتاب والسنة للتحقق من صحة دلالتها على المطلوب؛ قال (تعالى): ((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر، ذلك خير وأحسن تأويلا)) [النساء: 59].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): (وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام، فلا تُتلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يُعرف مراد المتكلم بها، فإن وافق ما قاله الرسول كان من القول المقبول، وإلا كان من المردود، ولا يكون ما وافق قول الرسول مخالفاً للعقل الصريح أبداً، كما لا يكون ما خالف قوله مؤيداً ببرهان العقل أبداً) (9).
ويقول أيضاً (رحمه الله): (وأما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة؛ كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة) (10).
ثم يقول بعد ذلك: (والسلف والأئمة الذين ذموا وبدّعوا أهل الكلام في الجوهر والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل في المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ في أصول الدين: في دلائله، وفي مسائله: نفياً وإثباتاً.
فأما إذا عرف المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، وعبر عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق الحق من معاني هؤلاء وما خالفه، فهذا عظيم المنفعة، وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ كما قال (تعالى): ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)) [البقرة: 213] وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم، وذلك يحتاج إلى معرفة معاني الكتاب والسنة، ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم، ثم اعتبار هذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف) (10).
وهذا المنهج قد استخدمه شيخ الإسلام في كتبه ومناظراته مع الخصوم، ومن أمثلة ذلك: قوله (رحمه الله): (فيقال له: لفظ الجوهر والعرض في الاصطلاح الخاص: ليس نفيهما عن الله من الشريعة، كما أنه ليس إثباتهما من الشريعة، بل سلف الأمة وأئمتها أنكروا على من تكلم بنفيها، كما أنكروا التكلم بإثباتها وعدوا ذلك بدعة، فليس لأحد أن ينفي بهذين اللفظين ـ الذين ليس لهما أصل لا في نص ولا في إجماع ولا أثر ـ إلا بحجة منفصلة غير هذا اللفظ، إذ الحجج التي يستدل منها باللفظ لابد أن يكون لفظها منقولاً عمن يجب اتباع قوله وهو الكتاب والسنة والإجماع، فكيف باللفظ الذي لا يُنقل عن إمام في الدين ولا أحد من سلف الأمة (11).
الهوامش:
(1) مجموع الفتاوى (12/ 113 - 114).
¥