ــ إن حديث: (كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها)، لا يحل الاحتجاج به. ولا يصح عن النبي ـ، بل هو حديث باطل مخالف للأحاديث الصحيحة السابقة، ولأن في سنده عمر بن هارون البلخي (3) متروك متهم بالكذب فلا يجوز التعلق بروايته.
*الاعتذار عن رأي الراوي:
قال الكرماني رحمه الله (4): (لعل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله تعالى: {محلقين رؤوسكم ومقصرين} (5)، وخص ذلك من عموم قوله ـ ـ: (وفروا اللحى) فحمله على حالة غير النسك) (6).
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ انظر فتح الباري 10/ 350، أوجز المسالك 15/ 5.
(2) ـ فتح القدير 3/ 348، وانظر حاشية ابن عابدين 2/ 418.
(3) ـ عمر بن هارون بن يزيد الثقفي مولاهم البلخي، متروك وكان حافظاً. مات سنة 294هـ.
(انظر: تقريب التهذيب ص417).
(4) ـ محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني عالم بالحديث شرح صحيح البخاري. مات سنة 786هـ. (انظر: الأعلام 7/ 153).
(5) ـ سورة الفتح، آية (27).
(6) ـ فتح الباري 10/ 250.
************************************************** ...
وسلك ابن حجر مسلكاً آخر فقال:
(الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه) (1).
وأنكر ابن التين (2) ظاهر ما نقل عن ابن عمر فقال:
(ليس المراد أنه كان يقتصر على قدر القبضة من لحيته بل كان يمسك عليها فيزيل ما شذ منها فيمسك من أسفل ذقنه بأصابعه الأربعة ملتصقة فيأخذ ما سفل عن ذلك ليتساوى طول لحيته) (3).
وفي رواية لأبي داود: (كان يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف) (4).
وفعل ابن عمر وهو أخذه وتقصيره لها من أطرافها لطولها لأنه ترك الأخذ منها من أول شهر شوال.
لقول نافع: (أن عبدالله بن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا حتى يحج) (5).
وليس فعله رضي الله عنه من واجبات الحج ومناسكه كحلق الرأس وتقصيره وإنما فعله في تلك الحالة اتفاقا. وليس هو من تمام التحلل (6).
ولذلك قال الشافعي رحمه الله بعد أن روى عن مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه ـ (قلت: فإنا نقول: ليس على أحد الأخذ من لحيته وشاربه إنما النسك في الرأس) (7).
ــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ فتح الباري 10/ 250.
(2) ـ عبد الواحد بن التين الصقاقسي المالكي الشيخ الإمام الراوية المفسر له شرح على البخاري اعتمده الحافظ ابن حجر. توفي سنة 611هـ بصفاقس. (انظر شجرة النور الزكية ص 168).
(3) ـ فتح الباري 10/ 351.
(4) ـ سبق تخريجه ص (364).
(5) ـ سبق تخريجه ص (364).
(6) ـ انظر: أوجز المسالك 7/ 326.
(7) ـ الأم 7/ 253.
************************************************** ********
وحديث جابر ـ رضي الله عنه ـ الوارد في هذا وهو قوله: (كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة) (1).
والسبال: جمع سبلة بفتحتين وهي ما طال من شعر اللحية (2).
فهو حديث ضعيف (3).
وقال الإمام مالك رحمه الله بعد روايته عن ابن عمر: (أنه كان إذا أفطر وهو يريد الحج لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً حتى يحج)، قال مالك: وليس ذلك على الناس (4).
وعلى كل فالحجة في روايته لا في رأيه.
ولا شك أن قول الرسول ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ـ وفعله أحق وأولى بالإتباع من قول غيره كائنا من كان.
أما حمل روايات النهي على ما يفعله المجوس والأعاجم من حلقها. فغير مسلم لأن الحلق لا خلاف في تحريمه عند أئمة المذاهب الأربعة.
ثم إن روايات اعفوا، وأوفوا، وأرخوا، وأرجوا، ووفروا صريحة في عدم التعرض لها. لا بحلق ولا بتخفيف.
فلا يصح حمل الإعفاء على إعفائها عن أن يأخذ غالبها أو كلها والحديث المروي في ذلك باطل كما سبق بيانه، ورأي الراوي أو غيره لا حجة فيه.
* الترجيح:
إن الراجح عندي من القولين والله أعلم بالصواب ـ هو كراهة أخذ ما زاد على القبضة لما سبق من الأدلة.
واختار هذا النووي رحمه الله فقال:
(والصحيح كراهة الأخذ منها مطلقا بل يتركها على حالها كيف كانت للحديث الصحيح واعفوا اللحى) (5).
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ سنن أبي داود، كتاب الترجل 4/ 414، باب الشارب، ح4201.
(2) ـ فتح الباري 10/ 350، وانظر النهاية في غريب الحديث 2/ 339.
(3) ـ انظر: ضعيف سنن أبي داود ص414.
(4) ـ الموطأ 1/ 396.
(5) ـ المجموع 1/ 343.
************************************************** **
فإعفاء اللحى مأمور به شرعا وإعفاؤها هو إكثارها وإيفاؤها وتوفيرها وإرخاؤها، وظاهر الأمر للإيجاب ما لم يصرف عنه صارف ولا صارف ههنا بل اهتمامه ـ ـ بتوفير اللحية طول عمره وكذا توفيرها من الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ حيث لم ينقل عن أحد منهم قصها أقل من القبضة غير ابن عمر بتأويل منه فضلاً عن حلقها دليل واضح على الإيجاب (1).
قال ابن كثير (2) ـ رحمه الله ـ عند تفسير قوله: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (2).
(أي عن أمر رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ـ وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله ـ ـ أنه قال: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) (3).
ــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ انظر وجوب إعفاء اللحية ص22.
(2) ـ إسماعيل بن عمر بن ضوء بن كثير البصروي الفقيه الشافعي المحدث. له مصنفات جليلة من أشهرها التفسير. مات سنة 774هـ. (انظر: ذيل تذكرة الحفاظ ص57، البدر الطالع 1/ 153).
(2) ـ سورة النور، آية (63).
(3) ـ تفسير القرآن العظيم 3/ 318ـ319.
************************************************** *
محبكم في الله: أبو أحمد عبد الله بن عويض بن عبد الله المطرفي الهذلي
[email protected] ([email protected])
¥