أن من مات وهو على ملته قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وكان على اتباع من غير تحريف، فهو على أمن ولا خوف عليه، وفي هذه الآية دفع لشبهة قد تنقدح في ذهن أتباع الشرائع الماضية كاليهودية والنصرانية، أن الإسلام يكذب بسائر الشرائع قبله وأنها كانت باطلاً واختلاقاً كلها، فدفع ذلك بأن الإسلام جاء مقرراً لها مبيناً وناسخاً لأحكامها الباقية التي لم تحرف، ومن مات وهو عليها من غير تحريف قبل البعثة الإسلامية فهو كمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا عين الحق الذي لا يختلف فيه أحد.
وأمثال هذه الشبهة التي ترد على الأذهان، ترد عند كل من كان باقياً على حكم عاملاً به، إذا ورد ما ينسخه، ويغيُره إلى حكم جديد، يشتبه عليه حال عمله وعمل من مات ولم يبلغه التغيير بعد ورود الحكم الجديد، وهذا له نظائر كثيرة، من ذلك ما روى البخاري من حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت وأنه صلى أو صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) ورواه مسلم من وجه آخر.
وقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ} البقرة62 الآية.
قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: ((لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت علي الأرض. وذكر اجتهادهم، فنزلت هذه الآية، فدعا سلمان فقال: "نزلت هذه الآية في أصحابك". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي فهو على خير ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك")).
وقد تُفسر الآية على أن الرسالة المحمدية عامة وللناس كافة، وليست لفئة دون أخرى، ولا للعرب دون غيرهم، بل مخاطب بها الجميع عرب وعجم، وأهل كتاب وغيرهم، فمن {آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
والصابئة يزعمون أن نبي الله يحي رسولٌ لها، تأثروا بالمشركين فأخذوا يعظمون الكواكب والنجوم، وفيهم قبل الإسلام حنفاء باقون على عقيدتهم بلا تحريف، وكثير من الفقهاء يلحقهم بالكتابيين في الأحكام كالجزية.
وقيل: إنهم لا نبي لهم، بل أصلهم موحدون بالفطرة، ولم يُحدثوا كفراً، بل لديهم إسلام مشترك عبادة الله وحده وتحريم الفواحش وإقامة العدل، وإيرادهم في الآية وهم ليسوا بأهل كتاب سماوي - على قول بعض العلماء - دليل على هذا المعنى أنهم في حال إيمانهم لا يختلفون في المآل عن غيرهم، فأهل الكتاب أصلاً فيهم محرفون للكتب مغيرون لكلام الله، فهم غير داخلين في معنى هذه الآية، إلا إذا اتبعوا من غير تحريف قبل البعثة ومثلهم الصابئة لو اتبعوا الكتاب قبل مجيء الإسلام أو دخلوا في الإسلام بعد مجيئهم فهم كالمسلمين سواء.
والقسم الثاني: التقارب بين أهل الأديان، ويريد بذلك البعض السلام، ونبذ القتال، وهذا بذاته فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صالح وسالم، بحسب حال الأمة في القوة والضعف، وقد ذهب عامة المفسرين إلى أن آيات السلم كلها منسوخة، وذلك بعد تمكن المسلمين وقوتهم، نص على هذا قتادة وغيره، وقال بالعمل بها عند الحاجة جماعة من العلماء.
وإذا كان هذا النوع من التقارب يستلزم شيئاً من مفاسد الأول فلا شك برده مهما كانت حجة قائله وحسن قصده ونيته، كما تقدم بيانه.
وأما الفرق بين الحوار والتقارب:
فالحوار من ثماره التقارب، وهو مشتق من الحور وهو الرجوع بالكلام بين الطرفين مرة بعد أخرى، وكثرة مداولته، والحوار هو النقاش والجدال والمحاججة رغبة في إيصال الحق للمخالف، وتولد عنه ما يسمى بـ "حوار الحضارات" أو "حوار الأديان".
¥