ومن مكر الملأ ما يسمى ب (الحوار بين الأديان) فقد بدأ بعد الاستشراق بقليل، وقد غُرس لينبت شوكاً يثير جدلاً بيننا، وقد عُقدت مؤتمراته ليشير الملأ إليها حين يتحدثون إلى قومهم ويقولون لهم: هؤلاء علماء المسلمين يعترفون بديننا فلا داعي إذا لأن تتركوا دينكم إلى دين يقول علمائه أنكم على صواب. وفي ذات الوقت يتلون عليهم (مثالب) ديننا التي افتعلوها هم في حق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو في حق أحكام الشريعة. وإن تكلمنا نحن قالوا أولئك المتشددون منهم!!
مِن تأملي في حوارات النصارى المباشرة مع المسلمين (في المناظرات المنشورة أو في مناظرات البالتوك) ألاحظ أن النصراني يهدف إلى شيء واحد من المناظرة هو القول بأن الإسلام فيه مشاكل كما النصرانية فلا داعي لترك النصرانية لمشاكلها فلن ترحل لمكانٍ هادئٍ بلا مشاكل. لا يريد أكثر من هذا من المناظرة.
والملأ لا يريدون من إفتعال الشبهات حول شخص الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحول أحكام الشريعة سوى القول بأن عندهم ما عندنا فلا داعي لأن تغادر غضباً فلن تجد هناك رضاً.
ـ ويلحق بهذا أن الملأ من الكافرين يشجعون إخوانهم عندنا، فالجوائز الأدبية تعطى لأوليائهم، والبرامج التي يسمعها كل الناس تعطى للأقرب مكاناً منهم. وهذه وسائل تفعيل للمكر والكيد في صفوفنا. فانظر مثلاً من الذي يتكلم للعامة؟ تجد أن الأبرزَ هو الأقربُ مكاناً من القوم، هو من لا يكفرهم أو من لا يهتم بكفرهم أو من لا يشجب عليهم أو يثير القلاقل بينهم.
حين أنسحب من هذه الضوضاء وأحاول رسم صورة لما يحدث على أرض الواقع لا ترتسم الصورة بخاطري إلا ثلاثة أقواس .. متتاليات .. متداخلات .. قوس بداخلنا وقوس أمامنا، وقوس خلفه لا نلمسه ولا نستطيع.
القوس البعيد من الكافرين، قد حموا أنفسهم بقوسٍ من المنافقين في السياسة والفكر، والقوس الثالث صنعته يد النفاق وهو بين أظهرنا .. يتخللنا .. بين صفوف الملتزمين بشريعة رب العالمين، أهلُ هذا القوس من إخواننا، مَن يجادلون في الكفر الأكبر ويقولون كل ما هو كائن اليوم على أرض الواقع كفر أصغر، وأن حدَّ الإيمان النطق بالكفر، وهو كلام نصوب بعضه ونتفهم بعضه ونرد جلَّه، وليس المقام مناقشة إخواننا، ولكن بيان هذه الأقواس الثلاثة المتتالية.تبصرة وذكرى لأولي الألباب.
على ماذا الصراع؟
الصراع صراع وجود، ولا يسير في طريقه إلى (السلام) أو يصير إلى (السلام) بمفهومه الخاص، الذي لا يكون إلا حين تنعدم أفعال وأصوات المخالفين. لا يرضى الكافرون بالمؤمنين، ولا يرضى المؤمنون بالكفر ولا بالكافرين، لا يرضى أحدٌ منهم بالآخر إلا في إطار التبعية والانحسار وعدم التأثير في حياة الناس، ومن يقل بغير هذا يخادع نفسه. ولك أن تسأل عن سبب الحروب القائمة اليوم على ظهر المعمورة في الأفغان وفي الشيشان وفي فلسطين والصومال ولك أن تسأل عن من يُصَادَر رأيهم ويُحْبَسون في بلادهم، لم؟
من أجل (السلام)!!، فهؤلاء من منظور أولئك يسعون في الأرض (فساداً) ولذا وجب قتلهم أو (اعتقالهم) ليحل (السلام). منطق كمنطق فرعون إذ قال كما حكى على لسانه القرآن الكريم {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
والملأ يواجهون واقع الدعوة بما يناسبه، فحين يكون منكفئاً في ذاته لا يسمع به أحد ولا يتكلم في أمور العامة .. بمعنى لا يُحْدِثْ تغيراً في حياة الناس فإنهم لا يلتفتون إليه، كما حصل مع الدعوة في فترة السرية، وكما حدث مع الحنفاء من قبل، وكما يحدث الآن مع (المتدينين) في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، ثم حين يتحركون ويحدثون أثراً يشتدون لاستئصالهم فإن لم يقدروا خدعوهم واستنزلوهم عن مبادئهم، بالحوارات، كما حدث من قريش، كانت جادة في القضاء على الدعوة، ثم حين اشتد عودها لجئوا إلى (الحوار)، وراح (عتبة بن ربيعه) وراح الملأ جميعهم يعرضون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشياء يريدون بها طريقاً وسطاً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. طريقاً يبقى كل على ما في يديه، تقول الروايات وذاك بعد أن أسلم حمزة وعمر.
¥