(و) وباطلاع البدر العيني تِباعاً على فتح الباري، كان أثناء تأليفه لـ " عمدة القاري" ينقض آراء الحافظ بن حجر ويعترض عليه بطرق لا تخلو من عنف وتحامل.
(ز) تميز كل منهما بكثرة الطلبة وكثرة التأليف. ويغلب على الظن أن لتلاميذ الشيخين ومؤيدي كل منهما يداً في إذكاء هذه الخصومة بانتصار كل من الفريقين لشيخهم، وتلفيق الشائعات المختلفة ونقل الأقاويل المثيرة بين الرجلين [6].
3 - مظاهر الصدام بينهما:
(أ) حَدَثَ نفور بين الرجلين بلغ من الشدة أحيانا درجة العداء، وتبادلا عبارات القدح والهجاء؛ مما يخرج عن مناهج الجدل بين العلماء.
(ب) وجود المغالطة والثلب في نقاش البدرعيني، والمغالاة في التحامل على ابن حجر، كما اتسمت الخصومة بينهما في بعض الأحيان بطابع طريف من المفاكهة والتندر [7].
(ج) تعصب ابن حجر على البدر العيني في أدوار حياته كإزالة ابن حجر الخطبة عن مسجد أقامها فيه البدر العيني بمجرد انفصاله عن القضاء.
(د) تشهير البدر العيني بابن حجر، يقول العيني في تاريخه، عند ترجمة الأمير محمد بن الملك الظاهر جقمق: " إن ابن حجر (القاضي الشافعي) كان يتردَّدُ عليه، هو والسعيد الديري (القاضي الحنفي)، في الجمعة مرتين، حتى كان الناس يسمونهما فقهاء الأطباق. قال: وكل هذا من عدم حفظ حرمة العلم ". قال السخاوي بعد أن نقل ذلك عنه: " وكأنه رحمه الله لم يستحضر حين كتابته لهذا ملازمتَه وتردُّدّه للأشْرَف وغيره في قراءة التاريخ ونحوه، بل لو كان في أيامه قاضياً لبادَرَهما إلى الطلوع " [8].
(هـ) تعريض كل منهما بالآخر: ذُكِرَ أن مئذنة الجامع المؤيدي على البرج الشمالي كادت تسقط وبُنِيَتْ من جديد، وذكر المقريزي في خططه (كان بينه وبين البدر بعض الجفاء) فقال الحافظ بن حجر في ذلك (من الطويل):
لجامع مولانا المؤيدِ رونقٌ منارتُه بالحسن تزهو وبالزيني
تقولُ وقد مالتْ عليهم تَمَهَّلُوا فليسَ على حُسْنٍ أضرُّ من العيني
وقيل إن ابن حجر كتب في ورقة هذين البيتين إلى الملك المؤيد.
فتحدث الناس أنه في قوله بالعين قصد التورية لتخدم في العين التي تُصيب الأشياء فتُتلفها، فقال البدر العيني يُعارضه ويُعرِّضُ به (من البسيط):
منارة كعروس الحسن إذ جليت وهدمها بقضاء الله والقدر
قالوا أصيبت بعين قلت ذا غلط
ما آفة الهدم إلا خسة الحجر [9].
وقال ابن حجر في كتابه إنباء الغمر في أبناء العمر أنه اُنشد بيتيه في مجلس المؤيد، وكان العيني إذ ذاك شيخ الحديث بالمؤيدية، فأراد بعض الجلساء العبث بالشيخ بدر الدين العيني فقال له إن فلانا عرض بك، فغضب واستعان بمن نظم له بيتين ونسبهما لنفسه، وهما للنواجي لا بارك الله فيه، مع أن المقريزي نسب البيتين إلى البدر العيني.
(و) وتحامل السخاوي، تلميذ ابن حجر، على البدر العيني؛ وإن كان قد درس عليه أيضاً؛ إلاَّ أنه كان يجري على معاضدة ابن حجر" في كل شيء ومنابذة مَن نابذه كائنا من كان، وهذا ظاهر كامل الظهور في كتبه " [10].
4 - نتائج الصدام بينهما:
كان من نتائج هذا الصدام:
(أ) ظهور كتاب " عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ": وقد سطر فيه اعتراضاته على فتح الباري لابن حجر. وقد دُهِشَ هذا الأخير حين اطلع على عمدة القاري وعجب من تحامل القاضي عليه.
(ب) أن أصحاب ابن حجر وجدوا أن العيني قد اشتط في نقده للشهاب، وأنه نسِيَ أنه استمد من فتح الباري عمدة القاري، وأنه استفاد منه، وكان ينقل الورقة بكاملها كما ذكر الحافظ السخاوي.
(ج) رد أصحاب العيني التهمة مُحْتَجِّينَ بأن تشابه الكتابين يرجع إلى وحدة المصادر التي اعتمد عليها الشيخان، واستفادة اللاحق من السابق أمر غير معيب.
(د) وكان من أوائل ردود أبن حجر ما ورد عند الشنقيطي: " حكي أن بعض الفضلاء ذَكرَ لابن جحر ترجيح " شرح العيني " بما اشتمل عليه من البديع وغيره، فقال بديهة: هذا شيء نقله من شرح لركن الدين، وكنت وقفت عليه قبله، ولكن تركتُ النقل منه لكنه لم يَتمّ، إنما كتب منه قطعة، وخشيتُ من تعبي بعد فراغها في الاسترسال في هذا المنهج، ولذا لم يتكلم العيني بعد تلك القطعة بشيء من ذلك، قلتُ يظهر هذا بديهة لمُطالِعِه بعد الأجزاء الأُوَّل، وبالجملة هو شرح حافل كامل، ولكن " فتح الباري " فتح الباري " [11].
¥