وعلق المحققان على هذه المحاكمة التي أقامها الشيخ البصيري أنه سلك " في معالجتها منهج الحَكَمَ العادل والقاضي النزيه الذي يلتزم الحيطة، ويتوخى الإنصاف والحق والأمانة فيما يُصدر من أحكام" [16].
وبعد أن رسما منهجه في المقارنة بين الشرحين، وأشارا إلى ما يتميز به الباحث من هدوء ورزانة، وجداه يُقارن بين عبارات الشيخيْن وآرائهما، وبين ما اتفقا عليه واختلافا في شأنه، وينظر في أدلة كل منهما ويعود إلى المراجع المختلفة إذا واجهته شبهة، أو أراد التحقق من صحة نقل أو رجحان رواية، أو تأييد رأي بنص من النصوص وعلى ضوء النتائج التي تُفضي إليها الدراسة والمقارنة، يُصدرُ حكمَه بتصويب وجهة نظر هذا أو ذاك من الشيخين، وقد يُخالفهما معاً في بعض المسائل، ويُبدي فيها رأيه الخاص مستدلا على صحته أو رجحانه بالحجج المقنعة من النصوص الواردة وآراء المحققين [17].
وجاء في مقدمة البصيري، وهي قصيرة: عن موضوع الكتاب قال: " كشف ما اشتبك في فهمه الشيخان الحافظان: العيني وابن حجر، فجرى قلمي من يومئذ بشيء يشبه أن يكون محاكمة بينهما [18].
6 - مع كتاب انتقاض الاعتراض:
التقط البدر العيني ما اعتبره تعليقات ضعيفة في شرح ابن حجر، وساق حوله اعتراضات واهية، وحين لم يتصدَّ أحد للرد على تلك الاعتراضات؛ تولى ابن حجر الرد عليها؛ فألف كتابه " انتقاض الاعتراض ".
ذكر محققا هذا الكتاب أن ابن حجر قد اقتصر فيه على الاعتراضات المهمة.
و بقراءة مقدمة كتاب " انتقاض الاعتراض " يلاحظ ما يلي:
(أ) براعة استهلال ابن حجر تنم عن نفسية قلقة حيث يقول بعد البسملة: " اللهم إني أحمدك على ما ألهمت من المحامد، وأشكرك على فضلك البادي والعائد، وأستنصرك على كل معاند ومُكائد، وأعوذ به من كل شر وحاسد " [19].
(ب) يقدم لنا ابن حجر تاريخ تأليف كتابه فتح الباري، وما بلغه من ظروف تأليف عمدة القاري للبدر العيني؛ ليسوق جملة معلومات أهمها: - السبق الزمني في العناية بصحيح البخاري من جوانبه المختلفة، وإنجاز هذا المشروع بمحضر طلبة العلم، وتحصيلهم له نَسْخاً وقراءةً، إلى أن يسر الله تعالى إكماله، وشيوعه في أطراف من العالم الإسلامي.
يقول ابن حجر: " أما بعد فأني شرعت في شرح صحيح البخاري في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة بعد أن كنت خرَّجتُ ما فيه من الأحاديث المعلقة في كتاب سميتُه " تغليق التعليق "، وكمُل في سنة أربع وثمانمائة في سِفْر ضخم، ووقف عليه أكابر شيوخي، وشهدوا بأني لم أسبق إليه.
ثم عملت مقدمة الشرح فكملت في سنة ثلاث عشرة المذكورة، ومن هنا ابتدأتُ في الشرح، فكتبتُ منه قطعة أطلت فيها التبيين، ثم خشيتُ أن يعوق عن تكملته على تلك الصفة عائقٌ، فابتدأتُ في شرح متوسط سميتُه فتح الباري بشرح البخاري" [20].
وذكر أنه بعد نحو خمس سنوات، تم تبييض مقدار الربع من الشرح، وكان طلبة العلم يستنسخونه ويقومون بالمعارضة والتحرير، " فصار السِّفر لا يكمُلُ منه إلاَّ وقد قوبِل وحُرِّرَ من ذلك النظر في ذلك الزمن اليسير لهذه المصلحة إلى أن يسر الله تعالى إكماله في شهر رجب سنة اثنتين وأربعين [وثمانمائة].
وفي أثناء العمل كثرت الرغبات في تحصيله ممن اطلع على رغبتي فيه حتى خطبه جماعة من ملوك الأطراف، فاستنسختُ لصاحب الغرب الأدنى نسخة مما كمل منه ( ... ) واستنسخت لصاحب المشرق نسخة بعد ذلك … " [21].
(ج) ويقول ابن حجر أنه في سنة اثنتين وعشرين، أحضر إليه طالب علم كراسة بخط مُحتسب القاهرة، الذي تولى بعد ذلك قضاء الحنفية في الدولة الأشرفية، وذكر فقرات من مقدمة عمدة القاري.
ووجد ابن حجر أن مقدمته اللطيفة قد انتزعها من قطعة كتبها شيخ الإسلام النووي، ولم ينسخها من نسخة صحيحة، فوقع في كثير من التحريف والتصحيف لبعض الكلمات زاد فيها على ثمانين غلطة، قال:" فأفردتُ ذلك في جزء سميته" الاستنثار على الطاغي المعتار". فكتَبَتْ عليها علماء ذلك العصر" [22].
وأتى ابن حجر بأسماء العلماء الذين كتبوا بتصويب ما تعقبَه عليه، وذكر نماذج مما أنكر عليه.
¥