وورد عند الكِرماني (محمد بن يوسف 786هـ)، في شرحه لصحيح البخاري، أنه لما كان كتاب البخاري معقوداً على أخبار النبي صلى الله عليه وسلم طلب تصديره بأول شأن الرسالة والوحي، ولم يُرد أن يُقدم عليه شيئاً، ولهذا لم يُقدم عليه الخطبة [33]. وجاء فيه أيضا:" قال العلماء: البخاري رحمه الله أورد هذا الخبر بدلاً من الخطبة وأنزله منزلتها؛ فكأنه قال بدأتُ بهذا الكتاب وصدَّرتُه بكيفية بدء الوحي، وقصدتُ به التقرب إلى الله تعالى فإن الأعمال بالنيات" [34].
وقال أيضاً:"والسلف كانوا يستحبون افتتاح كلامهم بحديث النية بياناً لإخلاصهم فيه" [35].
جاء في كتاب المجالس السنية في الكلام على الأربعين النووية لأحمد بن حجازي الفَشني (بعد 978هـ):"وقال بعضهم: لو صنفتُ مائة كتاب لبدأتُ في أول كل كتاب بهذا الحديث أي إنما الأعمال بالنيات، وهو حديث عظيم، كان السلف الصالح يحبون افتتاح مصنفاتهم به؛ تنبيهاً للطالب على حسن النية واهتمامه بذلك، ولأنها من أجل أعمال القلوب والطاعة المتعلقة بها، وعليها مدارها " [36].
2 - موقف ابن حجر من غياب خطبة الصحيح أي مقدمة الكتاب:
تمهيد:
من المعروف أن الإمام البخاري لم يضع خطبة لصحيحه، ولم يعمل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم:" كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع"؛ وإنما اكتفى بتصديره بترجمة بدء الوحي وأقام حديث "إنما الأعمال بالنيات" في بداية الصحيح مقام خطبة الكتاب. ويبدو أن هذه الحقيقة كانت معروفة عند شيوخ البخاري، أو على عهد شيوخه على أقل تقدير. فكيف كان الخلاف بين ابن حجر والعيني في شأن غياب الخطبة من الصحيح؟ لقد دفع ابن حجر ما أتى به البدرعيني في تعليل غياب خطبة الصحيح في ثلاثة من كتبه هي: فتح الباري وكتاب انتقاض الاعتراض، والاستنصار على الطاعن المختار.
وورد في كتاب كشف الظنون أن هذا الكتاب الأخير عبارة عن صورة فتيا عما وقع في خطبة شرح البخاري للعيني؛ ذلك أن ابن حجر فنَّد فيه مزاعم العيني بخصوص خطبة الكتاب. وسأتناول ردود ابن حجر من خلال كتابه فتح الباري، وكان بودي أن أعثر على الكتاب الثالث أو عن أي معلومات عنه [37].
ما هي المبررات التي ساقها ابن حجر في دفع الاعتراض على البخاري في تغييبه للخطبة؟
أ – دفع الاعتراضات على البخاري
يقول ابن حجر العسقلاني (852 هـ) في فتح الباري بشرح صحيح البخاري:
"وقد اعترض على المصنف لكونه لم يفتتح بخطبة تنبئ عن مقصوده؛ مُفتَتَحةً بالحمد والشهادة امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم:" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع"، وقوله:" كل خطبة ليست فيها شهادة فهي كاليد الجذماء"، أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة ".
فهناك اعتراضان:
أولهما أن الإمام البخاري لم يفتَتٍحْ صحيحَه بخطبةٍ تُنبئُ عن مقصوده.
وثانيهما أنه لم يمتثِلْ للحديثين الشريفين الموجِّهَيْنِ لضرورة البدء بالحمد والشهادة.
دَفَعَ ابن حجر هذين الاعتراضين، فقال عن الأول:
" الخطبة لا يتحتَّمُ فيها سياقٌ واحدٌ يمتنعُ العدولُ عنه، بل الغرض منها الافتتاحُ بما يدل على المقصود؛ وقد صدَرَ الكتابُ بترجمة بدء الوحي، وبالحديث الدالِّ على مقصوده المشتمِل على أن العمل دائرٌ مع النية، فكأنه يقول: قصدْتُ جمْعَ وحْيِ السُّنَّةِ المُتلقَّى عن خير البرِيَةِ، على وجه سيَظْهَرُ حُسْنُ عملي فيه من قصدي، وإنما لكل امرئ ما نوى، فاكتفى بالتلويح دون التصريح ".
وواضح من كلام ابن حجر أنه حمل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم محمل الخطبة، كما تقرر عند أهل العلم. وكأن نفس البخاري حدثته أن يضعَ مقدمة (خطبةً) لكتابه، وخامرته نشوة إعجاب بما صَنَع؛ فبحث عن حديث شريف يغنيه عن تلك المقدمة؛ فاكتفى بالتلويح دون التصريح.
وتصدير البخاري لصحيحه بهذا الحديث، واستعاضته بالخطبة عنه؛ يؤكد أن جوهر كل مقدمة في القديم والحديث هو الإحساس بقيمة ما أتى به المؤلف، والإعراب عن أثر السبق المعرفي في وجدان المؤلف. فالبخاري رحمه الله تعالى صدَّر كتابه بالحديث الدال على مقصوده، بعبارة ابن حجر.
¥