والجواب عن الاعتراض الثاني أن الحديثيْن الشريفيْن" ليسا على شرط البخاري، بل في كلٍّ منهما مقالٌ. ثم ليس في الحديثيْن أن ذلك يتعيَّنُ بالنطق والكتابة معاً؛ فلعله حَمِدَ وتشهَّدَ نُطْقاً عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصاراً على البسملة؛ لأن القدر الذي يجمع الأمورَ الثلاثةَ ذكرُ الله، وقد حصل بها، ويؤيدُه أن أول شيء نزل من القرآن: {اقرأ باسم ربك} فطريق التأسي به: الافتتاحُ بالبسملة، والاقتصار عليها… ويؤيِّدُه أيضاً وقوع كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وكتبُه في القضايا مُفتَتَحَةٌ بالتسمية دون حمدلة (…).
وهذا يُشعِرُ بأن لفظ الحمد والشهادة إنما يُحتاجُ إليه في الخُطَبِ دون الرسائل والوثائق، فكأَنَّ المصنِّفَ لما لم يفتتح كتابه بخُطبةٍ أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم لينتفعوا بها فيه تعلُّماً وتعليماً " [38].
ب – أدلته في دفع الاعتراضات:
وفي دفع ابن حجر لهذا الاعتراض أتى بأدلة هي:
(1) أن الحديثين الشريفين ليسا على شرط البخاري.
(2) لا يتعين من الحديثين النطق والكتابة معا، فلعله حَمِدَ وتشهَّدَ نُطْقاً عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصاراً على البسملة؛ لأن القدر الذي يجمع الأمورَ الثلاثةَ ذكرُ الله، وقد حصل بها.
(3) أن الرسول عليه السلام اقتصر في كتبه إلى الملوك على البسملة دون الحمدلة.
(4) أن البخاري أجرى كتابه مجرى الرسائل إلى أهل العلم، فلم يحتج إلى لفظ الحمد والشهادة، وإنما يُحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق.
(5) " اقرأ باسم بك " أول ما نزل من القرآن، فطريق التأسي بالقرآن الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها.
ووجد ابن حجر أن شراح صحيح البخاري قبله قد أتوا بأجوبة أخرى فيها نظر، ذكر منها:
- أنه تعارض عند البخاري الابتداء يالتسمية والحمدلة، فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة، أو بالتسمية لم يعد مبتدئاً بالحمدلة فاكتفى بالتسمية.
- أنه راعى قول الله تعالى" يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله "، فلم يُقدم على كلام الله ورسوله شيئاً واكتفى بها عن كلام نفسه، وتُعقب بأنه كان يمكنه أن ياتيَ بلفظ الحمد من كلام الله تعالى.
ج – الرد على العيني:
ولعل ابن حجر قد أضاف إلى ما سبق له أن كتبه في فتح الباري عن خطبة الكتاب هذه الفقرة، وهي قوله:" وأبعد من ذلك كله قول من ادَّعَى أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة، فحذفها بعضُ من حَمَل عنه الكتاب. وكأنَّ قائلَ هذا ما رأى تصانيفَ الأئمة من شيوخ البخاري وشيوخ شيوخه وأهل عصره كمالك وعبد الرزاق في المصنف وأبي داود في السنن، إلى ما لا يُحصى مِمَّنْ لم يُقدِّمْ في ابتداء تصنيفه خُطْبَةً، ولم يزد على التسمية، وهم الأكثر، والقليل منهم من افتتح منهم كتابَه بِخُطبةٍ. أفيقال في كل من هؤلاء إن الرواة عنهم حذفوا ذلك. كَلاَّ بل يُحمَلُ ذلك من صنيعهم على أنهم حمَدوا لفظاً. ويُؤيدُه ما رواه الخطيب في الجامع عن أحمد أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب الحديث، ولا يَكتُبُها، والحامل له على ذلك إسراعٌ أو غيرُه. أو يُحمَلُ على أنهم رأوا ذلك مُختصاً بالخطب دون الكتب كما تقدم، ولهذا مَن افتتَح كتابَه منهم بخطبة حَمِدَ وتَشَهَّدّ كما صَنَعَ مُسلم، والله تعالى أعلم بالصواب. وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل" [39]. فالبخاري صنع ما صنع شيوخه.
ويُمكن أن يُعتبر هذا رداً مباشراً على قول البدرعيني، حين ذهب إلى أن خطبة صحيح البخاري سقطت من الكتاب بفعل أحد النساخ، وأتى له بالدليل التوثيقي من خلال آثار العلماء. وإذا كان العيني قد بدأ مرافعته وقرر أن العلماء قد " ذكروا أن من الواجب على مصنف كتاب أو مؤلف رسالة ثلاثة أشياء: وهي البسملة والحمدلة والصلاة "؛ فإن ابن حجر قد أنهى فقرته بقوله: " وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل".
وواضح أن ابن حجر اعتبر القول بحذف الخطبة وسقوطها بفعل النساخ أبعد الآراء؛ ووجد في هذا ادعاءً، وجهلاً بمناهج التأليف عند أصحاب هذا الشأن.
وقد نظر ابن حجر لهذا الحديث، من حيث دلالته على الافتتاح، من جوانب أخرى، أهمها:
¥