أن البخاري ابتدأ كتابه بالرواية عن الحميدي امتثال لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " قَدِّموا قريشاً "، وهو أفقه قرشي أُخذ عنه. ووجه إدخال الحديث في ترجمة بدء الوحي هو أن الكتاب لما كان موضوعا لجميع وحي السنة، صدَّره ببدء الوحي، ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدَّره بحديث الأعمال.
لوحظ أن الإمام البخاري أتى بهذا الحديث تاما في آخر كتاب الإيمان، وقد روي عن شيخه الحميدي تاما في"صحيح" أبي عوانة، و"مستخرج" أبي نعيم، أما في مفتتح الصحيح فقد أسقطه، وكان من المناسب أن يذكر الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله. فإن كان الإسقاط من البخاري، كما ورد في فتح الباري؛ " فالجواب ما قاله أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري ( ... ): لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدراً يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس، من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابَه بِنِيَّةِ رَدِّ علمِها إلى الله؛ فإن عُلِمَ منه أنه أراد الدنيا، أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته، ونكب عن وجهي التقسيم للتزكية التي لا يتناسب ذكرها في هذا المقام " [40]؛ أي أن البخاري ترك ذلك مجانبة للتزكية.
3 - موقف البدر العيني من غياب الخطبة:
أ – منطلقه في قضية الافتتاح:
حدَّد منطلقه في بيان حال الافتتاح بقوله:" وذكروا أن من الواجب على مصنف كتاب أو مؤلف رسالة ثلاثة أشياء: وهي البسملة والحمدلة والصلاة، ومن الطرق الجائزة أربعة أشياء: وهي مدح الفن، وذكر الباعث، وتسمية الكتاب، وبيان كيفية الكتاب من التبويب والتفصيل. أما البسملة والحمدلة فلأن كتاب الله تعالى مفتوح بهما، ولقوله صلى الله عليه وسلم: " كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بذكر الله وببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع (أي قليل البركة) … قال ابن الصلاح هذا حديث حسن بل صحيح (…).
وأما الصلاة فلأن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره تعالى، ولقد قالوا في قوله تعالى (ورفعنا لك ذكرك)، معناه ذُكرتَ حيثما ذُكرتُ.
ثم إن البخاري رحمه الله تعالى لم يأت من هذه الأشياء إلا بالبسملة فقط " [41].
ويستفاد مما قدمه العيني في بيان الافتتاح ما يلي:
أولا: تشديده على وجوب استعمال البسملة والحمدلة والصلاة في افتتاح كل تأليف؛ لأن البسملة والحمدلة مُفتتح بها كتاب الله تعالى.
ثانيا: أن الوجوب قائم على من صنف كتابا أو ألف رسالة على السواء. ولاحظنا أن ابن حجر قال إن البخاري أجرى كتابه مجرى الرسائل إلى أهل العلم، فلم يحتج إلى لفظ الحمد والشهادة، وإنما يُحتاج إليه في الخطب دون الرسائل.
ثالثا: قوله بجواز أربعة أشياء وهي من المكونات الهامة للمقدمة، وهي:
(1) مدح الفن، ويُراد به بيان أهمية الموضوع ومنفعته والغاية المتوخاة منه.
(2) وذكر الباعث: أي أسباب التأليف ودواعيه.
(3) وتسمية الكتاب: عنوانه.
(4) وبيان كيفية الكتاب من التبويب والتفصيل: التصميم.
ووجد أن البخاري رحمه الله تعالى لم يأت من هذه الأشياء إلا بالبسملة فقط.
ب – الاعتذارات على البخاري وردوده عليها:
ونجد البدر العيني يُجمل الاعتذارات المقدمة في الدفاع عن البخاري في سبعة أمور، ردَّها كلها وجعلها بمعزل عن القبول. وساق تلك الاعتذارات والردود عليها على الشكل الآتي:
الأول: أن الحديث [كل أمر ذي بال…] ليس على شرط البخاري؛ لأن في سنده قُرة بن عبد الرحمن (وهو عند ابن حجر صدوق له مناكير).
الرد: القول بأن الحديث ليس على شرطه " كلام واهٍ جدا لأن الحديث صحيح صححه ابن حبان وأبو عوانة، وقد تابع سعيد بن عبد العزيز قًُرة، كما أخرجه النسائي. ولئن سلمنا بأن الحديث ليس على شرطه فلا يلزم من ذلك تركُ العمل به مع المخالفة مع سائر المصنفين. ولو فرضنا ضعف الحديث، أو قطعنا النظر عن وروده، فلا يلزم من ذلك أيضاً تركُ التحميد المُتوَّجُ به كتاب الله تعالى والمُفتتح به في أوائل السور عن الكتب والخطب والرسائل" [42].
¥