تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

في جميع هذه المؤلفات، التي تشكل بمضمونها ومنهجها ما أطلق ابن خلدون عليه اسم "طريقة المتأخرين"، تبدو كفة الفلسفة أرجح كثيرا مما كانت عليه عند مؤسس هذه الطريقة: الفخر الرازي. والحق "أن الفلسفة في هذه المؤلفات أخذت تتزيى بعلم الكلام، وتحوِّل علم الكلام أحيانا إلى فلسفة متنكرة. وما أكثر العلماء الذين التزموا هذا الاتجاه بعد ذلك فقاموا، كلما سنحت سانحة، يتبعون الشيعي نصير الدين الطوسي فيدافعون عن ابن سينا ردا على الغزالي أو الشهرستاني أو التفتازاني"، وذلك إلى درجة أن مؤلفاتهم غدت "أحرى أن تصنف في تاريخ الفلسفة من أن يبحث عنها في تاريخ علم الكلام".

فخر الدين الرازي: " كنت أكتب في كل شيء، حقا أو باطلا".

مثل هذه الازدواجية وهذا الاعتراف نجدهما كذلك عند المتكلم الفيلسوف فخر الدين الرازي. فمن جهة اقتفى في كتابه "المباحث المشرقية" أثر الشيخ الرئيس ابن سينا في "فلسفته المشرقية"، ليس في المضمون وحسب -وقد أشرنا إلى هذا قبل- بل أيضا، في دعوى "الأصالة" وعدم اعتبار المخالفين في "أصول" اهتدى إليها، كما يقول: "مما لم يقف عليه أحد من المتقدمين ولم يقدر على الوصول إليه أحد من الساكين السابقين". هذا بينما ألف كتابه الآخر، "محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين" لـ "جمع من أفاضل العلماء وأماثل الحكماء"، طلبوا منه -كما يقول- أن يصنف لهم "مختصرا في علم الكلام مشتملا على أحكام الأصول والقواعد دون التفاريع والزوائد".

وكما اعترف الغزالي في أواخر حياته بأن نيته لم تكن "صالحة لوجه الله" فيما ألف، أيام كان يجري وراء الجاه في بغداد، اعترف الرازي في وصية أملاها على أحد تلاميذه، وهو على فراش الموت، بأنه لم يكن هو الآخر مخلصا للحقيقة فيما كتب وألف. يقول في هذه الوصية: "اعلموا أني كنت رجلا محبا للعلم فكنت أكتب في كل شيء شيئا لا أقف عل كمية ولا كيفية، سواء كان حقا أو باطلا، أو غثا أو سمينا (…) ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم".

وبعد، فلعل القارئ يتساءل: وما علاقة هذا كله بموضوعنا: كتاب "تهافت التهافت " لابن رشد!؟

والجواب نجمله في الأطروحات التالية، التي نعتقد أن القارئ ما كان سيرحب بها، أو على الأقل يقبل التفكير فيها، لولا ما قدمناه:

15 - مواجهة "الأفكار الموروثة" بما يحرجها من داخلها

- الأطروحة الأولى هي أن "الفكرة الموروثة" التي شاعت وذاعت منذ الغزالي، ومازالت تحكم تصور الكثيرين في العصر الحاضر، والتي تقرر بلغة إيديولوجية سافرة أن الغزالي وجه ضربة قاضية للفلسفة "لم تقم لها بعده قائمة"، فكرة خاطئة تماما، وأن الضربة المزعومة ضربة كاذبة لا وجود لها إلا في ذهن من روجها، وهي تعبر عن رغبة أو جهل، وليس عن واقع.

لقد فضلنا بيان كذب هذه الدعوى، ليس باللجوء إلى الاستنجاد بما عرفته الفلسفة من تطور وازدهار في المغرب والأندلس بعد الغزالي مع ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، الشيء الذي يعني ضمنيا أنها قضي عليها في المشرق، ولا بالتنويه بالجانب الفلسفي في كل من إشراقية أبي الفتوح يحي بن حبش الملقب بشهاب الدين السهروردي المقتول (545؟ -588 هـ)، و تصوف أبي بكر محمد بن علي الطائي الحاتمي الملقب بمحيي الدين بن عربي (560 - 638 هـ)، الشيء الذي يعني الاعتراف بأن الفلسفة الكلامية السينوية التي هاجمها الغزالي قد تركت مكانها لنوع من التصوف الفلسفي، ألف فيه الغزالي كتبا اعتبرها المفصحة على حقيقة رأيه، مثل كتابه الذي نوه به "المضنون على غير أهله" (والمشكوك في وجوده)، وكتابه "مشكاة الأنوار"، المشهور والمتداول بين الناس قديما وحديثا الخ…أقول فضلنا إبطال تلك الدعوى لا بسلوك هذا المسلك الذي لا يشكل حجة قوية غير قابلة للرد، بل فضلنا مواجهة تلك "الفكرة الموروثة" بما يحرجها من داخلها، ويفضح زيفها وكذبها. لقد رأينا الفلسفة الكلامية السينوية نفسها، التي هاجمها الغزالي، تواصل حضورها في الفكر الأشعري الذي باسمه ولفائدته هاجمها وكفر أهلها, ورأيناها تحتل موقع المؤسس والمؤطر للفكر الشيعي الاثنا عشري بعد الغزالي وليس قبله. أما الإسماعيلية فلقد كانت لهم فلسفتهم قبل ابن سينا، وقد تعززت بفلسفة هذا الأخير إذ كانت تلتقي معها في

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير