فهذا لا يجوز الانكار عليه مادام موافقا للسلف في أصلهم وقاعدتهم ومادام لا ينطلق في هذه الجزئيات وتجويزها من منطلق بدعي وما دام أن تلك الجزئيات لم تكثر منه بصورة تستلزم إعراضه عن تلك القاعدة التي دلت عليها تطبيقات السلف المتواترة، وهذا منهج أهل العلم من السلف ومن جاء بعدهم من المحققين الذين ساروا على منوالهم.
هذه هي القاعدة الأصل في التعامل مع من يخالف في هذا الباب وهي التي يرجع إليها عند الاشتباه في معاملة المخالف
وهناك صور أخرى في التعامل مع المخالف تلحق بهذه القاعدة وتعتبر كالاستثناء
ومن ذلك ما وجدناه من منهج الأئمة بأن الانكار قد يسوغ حتى في حق من خالف في جزئية واحدة إن كان وجه الاحداث ظاهرا في تلك الجزئية أو كان فعله لها قائما على منهجية تدل على خلل في أصل اتباع السلف وإليك المثال التالي الذي يشهد للتفصيل في حال من يفعل البدعة بنحو ما ذكرت وهو من إمام رفيع وبتوضيح إمام محقق:
يقول الإمام ابن رجب في مسألة الجهر بالبسملة في الصلاة:
" وأما الآثار الموقوفة فِي المسألة فكثيرة جداً.
وإلى ذَلِكَ [عدم الجهر] ذهب أكثر أهل العلم من أصْحَاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، منهم: أبو بَكْر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، وبه يَقُول سُفْيَان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ...
وحكاه ابن شاهين عَن عامة أهل السنة، قَالَ: وهم السواد الأعظم.
وروى شعبة، عَن حصين، عَن أَبِي وائل، قَالَ: كانوا لا يجهرون بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)).
وروى الأثرم بإسناده، عَن عُرْوَةَ بْن الزُّبَيْر، قَالَ: أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلاّ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وعن الأعرج - مثله.
وعن النخعي، قَالَ: مَا أدركت أحداً يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وعنه، قَالَ: الجهر بِهَا بدعة.
وعن عَكْرِمَة، قَالَ: أنا أعرابي إن جهرت بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)).
وروى وكيع فِي ((كتابه)) عَن همام، عَن قتادة، قَالَ: الجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) أعرابية.
وعن سُفْيَان، عَن عَبْد الملك بْن أَبِي بشير، عَن عَكْرِمَة، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: الجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) قراءة الأعراب ...
وأكثر هؤلاء يكرهون الجهر، كما أنكره عَبْد الله بْن مغفل، وكما أنكره من قَالَ: ذَلِكَ قراءة الأعراب، ومن قَالَ: هُوَ بدعة، ونص أحمد عَلَى كراهته. "
فذكر ابن رجب بعض من خالف في المسألة من السلف ثم قال:
" وكان سُفْيَان الثوري وغيره من أئمة الأمصار يعدّون الإسرار بالبسملة من جملة مسائل أصول الدين الَّتِيْ يتميز بِهَا أهل السنة عَن غيرهم، كالمسح عَلَى الخفين ونحوه، حَتَّى قَالَ سُفْيَان لشعيب بْن حرب: لا ينفعك مَا كتبت حَتَّى ترى أن إخفاء: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) أفضل من الجهر بِهَا.
وَقَالَ وكيع: لا يصلَّى خلف من يجهر بِهَا.
وَقَالَ أحمد فِي الصلاة خلف من يجهر بِهَا: إن كَانَ يتأول فلا بأس بِهِ، وإن كَانَ غير ذَلِكَ فلا يصلى خلفه.
يشير إلى أَنَّهُ يصلي خلف من جهر بِهَا من أهل العلم والحديث، دون من يجهر بِهَا من أهل الأهواء، فإنهم المعروفون بالجهر بِهَا ... "
إلى أن قال:
" وَهُوَ أَنَّهُ إنما يسوغ الخلاف فِي هذه المسألة من مثل هؤلاء العلماءالمجتهدين، دون أهل الأهواء الذين كَانَتْ هذه المسألة مشهورة عنهم ...
ونقل صالح بْن أحمد، عَن أَبِيه، قَالَ: نحن لا نرى الجهر ولا نقنت؛ فإن جهر رَجُل - وليس بصاحب بدعة، يتبع مَا روي عَن ابن عَبَّاس وابن عُمَر - فلا بأس بالصلاة خلفه والقنوت هكذا " ا. هـ
فانظر إلى الإمام أحمد كيف فصّل في حال من يخالف ما كان عليه النبي وكبار أصحابه في هذه الجزئية وجعل هذه المسألة وهي جزئية فيصلا يترك لأجلها الصلاة خلف من يخالف السنة فيها وإنما يستثني من تأول ويريد بذلك من خالف في هذه المسألة مع إعماله لمنهج السلف في الاستدلال وقاعدتهم، خلافا لمن خالف فيها بسبب منهج بدعي يسير عليه
ولهذا المسلك أشباه ونظائر من المسائل يقف منها أهل العلم نفس الموقف.
فمن خالف ولو في جزئيات قليلة من هذا القبيل فلا أقل من باب أولى أن يعامل بمثل ما ذكر أحمد من التفصيل
¥