ويشهد للإنكار على من خالف ولو في جزئيات ما ذكره ابن مفلح في الفروع عندما قال ناقلا:
" وقال الفضل بن مهران: سألت يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قلت: إن عندنا قوماً يجتمعون، فيدعون، ويقرأون القرآن، ويذكرون الله تعالى، فما ترى فيهم؟
قال: فأما يحيى بن معين فقال: يقرأ في مصحف، ويدعو بعد الصلاة ويذكر الله في نفسه، قلت: فأخ لي يفعل ذلك؟ [يعني بهيئة جماعية]. قال ابن معين: انهه، قلت: لا يقبل، قال: عظه. قلت: لا يقبل. أهجره؟ قال ابن معين: نعم.
ثم أتيت أحمد فحكيت له نحو هذا الكلام فقال لي أحمد أيضاً: يقرأ في المصحف ويذكر الله في نفسه ويطلب حديث رسول الله.
قلت: فأنهاه؟ قال: نعم. قلت: فإن لم يقبل؟ قال: بلى إن شاء الله، فإن هذا محدث، الاجتماع والذي تصف قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَهْجُرُهُ؟ فَتَبَسَّمَ وَسَكَتَ ا. هـ
فها هو الإمام ابن معين يفتي بهجر من يذكرون الله بصورة جماعية محدثة وكذا أحمد لم يعترض على الهجر وأفتى بالإنكار على من يفعل هذا وهذا إنكار على من خالف في جزئية.
وبه نعلم أن الجزئية التي يتضح فيها جانب الاحداث والابتداع يتعين فيها الانكار فمن باب أولى من خالف في جزئيات تدل على لا مبالاة من البدع والمحدثات.
وربما المسألة الواحدة يتنوع فيها حال المخالف بها بناء على اعتبارات عدة
قال شيخ الإسلام في الفتاوى (1/ 281):
" وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة، فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبى شرعه لأمته لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة، بل غايته أن يقال هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الإجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها النبى لأمته.
أو يقال فى التعريف إنه لا بأس به أحيانا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة وهكذا يقول أئمة العلم فى هذا وأمثاله، تارة يكرهونه وتارة يسوغون فيه الإجتهاد وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة، ولا يقول عالم بالسنة إن هذه سنة مشروعة للمسلمين، فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله، إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع.
وما سنه خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره فهو من سنته، ولا يكون فى الدين واجبا إلا ما أوجبه ولا حراما إلا ما حرمه ولا مستحبا إلا ما استحبه ولا مكروها إلاما كرهه ولا مباحا إلا ما أباحه ".ا. هـ
لكن من أنكر (بمعنى عنف) على أحد ممن يوافق السلف في أصل وقاعدة البدعة ويخالفهم في بعض الجزئيات تأولا ولأسباب لا تدل على تسويغ لجنس المحدثات، من أنكر عليه تعنيفا لوقوعه في بعض البدع التي لا تزيد عن كونها جزئيات فهذا المنكِر هو الذي ينبغي أن ينكَر عليه.
إذ بعض من يمسح وجهه بعد الدعاء يظن أن الحديث فيه صحيح وكذا من يسبح بالمسبحة يظن صحة ماورد، أو يظن أن طريقة العد ليست من جنس العبادة فلا بأس أن تكون بأي صورة، وجملة من البدع وإن كانت قليلة قد تُفعل من قبل بعض من يعظم السلف لعدم ظهور جانب الاحداث فيها، فمن ينكر على أمثال هؤلاء فهو مخطئ وهو الذي ينكر عليه ولكن وإن أنكرنا عليه لا نعتقد أنه بإنكاره الخاطئ صار بدعيا ولكن يلحقه من الذم بحسب خطئه
أما من كان مخالفا للسلف في أصلهم وقاعدتهم، ويزعم أن البدعة شرعا فيها ما هو حسن كما يقول الأستاذ، وأن البدعة الإضافية ليست من قبيل المذموم، وبالتالي لزاما يخالف في جل الجزئيات فهذا يتعين الإنكار عليه بعد البيان والنصح، فإن أصر فيوصف بالبدعة
وهذا الذي يدل عليه أثر أحمد السابق، بل آثار السلف في هذا متواترة منها ما سبق وسيأتي الكثير
ولو اتفق الناس على لزوم قاعدة السلف ومذهبهم في البدعة لزال كثير من الخلاف ولن يبقى خلاف كبير في التطبيق.
وما يحصل من التردد في بعض الصور الدقيقة فالواجب فيه الاحتياط وعدم القول بالمشروعية
قال الإمام الكاساني في بدائع الصنائع:
" وَالْفِعْلُ إذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ تُغَلَّبُ جِهَةُ الْبِدْعَةِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْبِدْعَةِ فَرْضٌ وَلَا فَرْضِيَّةَ فِي تَحْصِيلِ السُّنَّةِ "
قالها عند الخلاف في البسملة.
فانظر إلى حرص العلماء ليظهر لك خطر الانفلات في البدع
¥