قال ابن القيم عليه رحمة الله في مدارج السالكين: "فراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء: بعينه وأذنه وقلبه, فعينه للسيماء والعلامات, وأذنه: للكلام وتصريحه وتعريضه ومنطوقه ومفهومه وفحواه وإشارته .. ولحنه وإيمائه ونحو ذلك .. وقلبه للعبور والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه, فيعبر إلى ما وراء ظاهرة, كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد والإطلاع عليه: هل هو صحيح أو زغل؟ وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل, إلى باطن الروح والقلب, فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد .. وللفراسة سببان أحدهما: جودة ذهن المتفرس, وحدة قلبه, وحسن فطنته. الثاني: ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه. فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطئ للعبد فراسة, وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة, وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر, كانت فراسته بين بين .. "
وقال صاحب المنازل رحمة الله: "الفراسة: استئناس حكم الغيب" والاستئناس: استفعال من آنست كذا, إذا رأيته, فإذا أدركت بهذا الاستئناس حكم غيب: كان فراسه وإن كان بالعين كان رؤيه, وإن كان بغيرها من المدارك فبحسبها.
قوله: "من غير الاستدلال بشاهده" هذا الاستدلال بالشاهد على الغائب, أمر مشترك بين البر والفاجر, والمؤمن والكافر, كالاستدلال بالبروق والرعود على الأمطار, وكاستدلال رؤساء البحر بالكدر الذي يبدو لهم في جانب الأفق على ريح عاصف, ونحو ذلك, وكاستدلال الطبيب بالسحنة والتفسرة على حال المريض"
وجاء أيضاً في مفتاح السعادة ومصباح السيادة لـ (بطاش كبري زاده) تعريف علم الفراسة: هو علم يتعرف فيه أخلاق الإنسان من أحواله الظاهرة من الألوان والأشكال والأعضاء وبالجملة: الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن.
اعتبر فخر الدين الرازي: أن أصول علم الفراسة مستندة إلى العلم الطبيعي وأن تفاريعة مقررة بالتجارب وأن العلم يجري فيه بالتعليم والتعلم.
تحليل الشخصية من خلال التوقيع قريب من القيافة:
رجعت مرة أخرى إلى كتاب مفتاح السعادة ومصباح السيادة والذي عرف مؤلفه القيافة بقوله: (علم يبحث عن تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافز في الطرق القابلة للأثر, وهي التي تكون تربة تتشكل بشكل القدم, ونفع هذا العلم بين, إذ القائف يجد بهذا العلم الهارب من الناس, والضوال من الحيوان بتتبع آثارها وقوامها بقوة الباصرة وقوة الخيال والحافظة, حتى سمعت بعض من اعتنى بهذا العلم أنهم يفرقون بين أثر قدم الرجل وأثر قدم المرأة وبين أثر قدم الشيخ والشاب والله أعلم بالصواب).
وتتبعت أقوال العرب وغيرهم: في القلم والخط:
قالوا في الخط: الخط حليٌّ تصوغه اليد من تبر العقل وبنور الخط تبصر الحكمة, صورة ضئيلة لكن له فوائد جليلة.
- وقيل: الخط وجه أبهره العقل بواسطة الحسن.
- وقيل: بالخط يدرك مراد النفس ومن منهله تروى العقول الظامئة إلى الحكمة.
- وقيل: القلم أحد اللسانين.
- وقيل: القلم لسان الغائب.
- قال ابن المقفع: القلم بريد القلب, يخبر بالخبر وينظر بلا نظر.
- وقال جالينوس: القلم طبيب المنطق.
- وقيل: القلم أصم يسمع النجوى, وأخرس يفصح الدعوى, وجاهل يعلم الفحوى.
- وقال العتابي: الأقلام مطايا الأذهان.
- وقال ابن أبي داؤود: القلم سفير العقل, ورسوله الأنبل, ولسانه الأطول, وترجمانه الأفضل.
- وقال أقليدس: الخط هندسة روحانية, وإن ظهرت بآله جسمانية.
- وقيل: القلم لسان اليد.
- وقيل في القلم شعرا:
فيصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا امتطى الخمس اللطاف وافرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل
وقال الفضفاض:
شبر إذا قيس ولكنه ... ي فعله مثل الأقاليم
وقال ابن الرومي:
لعمرك ما السيف سيف الكمى ... بأخوف من قلم الكاتب
له شاهد إن تأملته ... ظهرت على سره الغائب
- ووصفه آخرون: القلم شجاع يمج السم والعسل.
- وقال بعضهم: القلم يزف بنات القلوب إلى خدور الكتب.
- وقال ابن المعتز: القلم يخدم الإرادة, ولا يمل الاستزادة يسكت واقفاً وينطق سائراً.
- وقال سهل ابن هارون: القلم أنف الضمير, إذا أرعف أعلن وأبان آثاره.
- وقال عمرو بن مسعدة: الأقلام مطايا الفطن.
- وقيل: عقول الرجال تحت أقلامها.
- وقال يحيى البرمكي: الخط صورة روحها البيان, ويدها السرعة, وقدمها التسوية, وجوارحها معرفة الفصول.
- وقال أفلاطون: الخط عقال العقل.
- وقيل: ببكاء الأقلام تتبسم الكتب.
- وقيل: القلم لسان العقل.
- وقيل: صرير الأقلام, أشد من صليل الحسام.
ولو أعدنا النظر والتأمل في الحكم والأقوال السابقة حول القلم والخط لتجمعت لدينا الكلمات التالية: حليٌّ, ولسان الغائب, ويخبر بالخبر, وسفير العقل, وهندسة روحانية, ولسان اليد, ويمج السم والعسل, ويخدم الإرادة وأنف الضمير, ولسان العقل.
يقول ابن خلدون في مقدمته: الخط رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس.
ومن تلك الكلمات يتضح أن القلم والخط عبارة عن أثر للكاتب (والنقش يدل على النقاش).
وبما أن علم القيافة يبحث في آثار الأقدام والخفاف والحوافز, فتحليل الشخصيات من خلال التوقيع يبحث في آثار الخطوط والأقلام, فإذا تقرر ما سبق فإن تحليل الشخصيات من خلال التوقيع أقرب للقيافة منه للفراسة.
قيافة الأثر: تتبع آثار الأقدام.
قيافة التوقيع: تتبع آثار الأقلام)
انتهى منقولا بتصرّف.
هدى الله الجميع لسلوك سبيل الحق ولزوم الصراط المستقيم.
¥