وجبهتي بالموت محنيّه
لأنني لم أحنها حيّه ..
ارتعت من طول ذلك الطابور وأنا من قد عرفت كرهًا للطوابير، فسألت سائق الأجرة:
هل سنقف مع هؤلاء التعساء؟
فأجابني: يمكنك أن تدفع ثلاثة أضعاف قيمة الخبز فتحصل عليه دون الوقوف.
دفعت المبلغ مستبشرًا، وانصرفنا بخبزنا راشدين. كان ابن القيم قال: "ما ابيضّ رغيفهم حتى اسودّ فقيرهم".
كان سائق الأجرة على شيء من الودّ، فأخذت أثناء التفاوض للسماح لنا بالحصول على الخبز أتحدث معه حديثًا بالإشارة ما عدت أذكره، وإنما أذكر أنه أثناء حديثه أشار إلى إصبعين من أصابعه، ثم نفى أن يكون أحدهما يشبه الآخر؛ فذهلت .. هل يريد سائق الأجرة هذا الروماني الخارج لتوّه من سعير الشيوعية أن يقول لي أنا الوهابي القادم من صميم نجد: "أصابعك ما هيب سوا"؟!
ما أشد تبايننا واتفاقنا ..
أدركتُ فيما بعد بقدر من التأمل والقراءة في فلسفة الأمثال:
1 - أن ما يميز الثقافات بعضها عن بعض هو الاختلاف بينها، وأن هذا الجنس الأدبي "الأمثال" يعود فيَحطِم هذا المعنى؛ لأن ثمة تشابهًا مدهشًا بين أمثال الشعوب على الرغم من شدة التباين بين هذه الثقافات المنتجة .. (لا تنس الطرفة أيضًا، في التراث اليهودي شخصية ساخرة (هيرشل أوستروبولير) يروون عنها من الطرائف قريبًا مما نرويه عن جحا".
2 - أن هذا التشابه المحيّر أول وهلة إنما يرجع عند تحليله إلى عوامل عدة؛ من أهمها:
أ- التأثير الحضاري بسبب حركة التجارة وهجرة الشعوب. (يذكرني هذا العامل بما كانوا يقولونه لنا عن عوامل سقوط الدولة العثمانية في كتب التاريخ الهزيلة التي كنا ندرسها).
ب-التشابه في التجربة الإنسانية الذي يولّد المعاني نفسها حين تتماثل المؤثرات، ففي غينيا – بيساو وفي بلدتي شقراء؛ لا أحد يضحك من شدة الألم ..
يكثر جريان المثل في كل مجتمع على ألسنة العامة من الناس، وكلما ارتفعت الطبقة الاجتماعية ضعف دوران المثل في كلامها، لأن المثل موروث تقليدي تتناقله الثقافة الشفهية الشعبية، وليس تتأكد هوية النخبة إلا بالقدر الذي تبتعد فيه عن هوية العامة.
لأن الفقر تربة الرذيلة؛ ولأن الفقر يشوّه القيم في نفس الفقير، ويورثه ميزانًا غير صالح يزن به العادات والأخلاق؛ فإن الفقير يظن أن الأغنياء وأصحاب البيوتات لم يصبحوا كذلك إلا لقيم لا يملكها، فإذا انتقل إلى طبقة أعلى من طبقته؛ فإنه يحاول أن يقترب من أخلاق هذه الطبقة وعاداتها ..
ولأن أكثر الطبقة الوسطى في المجتمع السعودي قد طرأت عليها الثروة بسبب الطفرة العقارية وجنون الأسهم؛ فإنها تمزّقت هويتها بسبب هذا النمو المادي المباغت الذي لم يصحبه نموُُّ موازٍ لأخلاق وعادات اكتسبها أهل البيوتات العريقة اكتسابًا طبيعيًا على مر الزمن. (ذكر العلامة محمد كرد علي في بعض كتبه أنه رأى وزيرًا جاء من الطبقة الدنيا قد اتسخت أظافره).
لهذا التشوه الذي أصاب هذه الأنفس التي ما بارحت الفقر إلا البارحة؛ نجد أنها تدير في كلامها مفردات لا تستخدمها النخبة؛ لأنها لا تستطيع أن تستغني عنها سريعًا في خطابها، لكنها –لأنه أيسر عليها- تتكلّف نسيان المثل ومحوه من ذاكرتها حتى تلحق بالطبقة الأعلى، فلا يكاد المثل يجري على لسانها كما كانت تفعل من قبل.
قال الدكتور صلاح فضل في كتابه "شفرات النص" في نقد بعض الشعراء: "هو ذو بعد كوني أنطولوجي في مرحلته الأولى، وله طابع معرفي إبستمولوجي في الثانية، ويتمتع بأساس أكسيولوجي في الثالثة، وله سمة كوزمولوجية في الرابعة، وقوة ترنسندنتالية في الخامسة، وصفات فينومينولوجية في السادسة، وأيديلوجية في السابعة".
صدق من قال: حسبك من شرّ سماعه .. إن استطعت أن تعيد هذه الوصفة الطبية في نفَس واحد دون أن تصاب بحساسية في الجيوب الأنفية؛ فلك عندي عشر إبستمولوجيات من الذهب الخالص، مع علبة كوزمولوجي دهان موضعي عند اللزوم!
حسبكم الله ماذا فعلتم بعقولنا يا نقاد الجنون المعقول؟ زعمتْ أقلامكم أنها استيقظت: "من عادة النوم على الأمجاد"؛ ثم ماذا؟ وقفت ذليلة تتثاءب –بلباس النوم- على باب المنهج الغربي تتكفّفه نموذجه المعرفي ..
دع عنك البنيوية الجامدة والتفكيكية السيّالة، وخذ عن هذا النجدي الطيّب: لو سئلتُ عن أبرز سمة تسِم مُحْدَث النَّعْمة لقلت: إنها ابتداء غياب المثل عن حديثه، والحمد لله.
¥