حين لا تستقيم الحكومات؛ تعوجّ الطوابير ..
ـ[همام الحارثي]ــــــــ[30 - 10 - 09, 12:02 ص]ـ
حين لا تستقيم الحكومات؛ تعوجّ الطوابير ..
عبد الله بن عبد العزيز الهدلق
* نشرت هذه المقالة في مجلة (الإسلام اليوم) العدد [61] ذو القعدة 1430هـ.
قال مكسيم غوركي: "جئت إلى هذا العالم كي أختلف معه".
ولقائلٍ أن يقول: جئت إلى هذا العالم لأختلف مع مكسيم غوركي، جئت إلى هذا العالم كي أضيف إليه ..
تريد الحق بلا مواربة: ما أكرهه في هذه الحياة أكثر مما أحبه، لكن كره أشياء الحياة تختلف درجاته بتفاوت أثره السيئ على نفسي .. أنا أكره حارس مسجدنا البنغالي؛ لأنه كان يرش إطارات السيارة بالماء ثم ينصرف –رعاه الله- ليوهمني بأنه قام بتنظيفها.
مع أني أستحق شيئًا من هذا، لأني لم أعتبر- متى اعتبرنا ونحن كلما أنضجتنا الأيام فضحتنا التجربة! - بما قاله كثّ الشارب والعقل، هذا المحيّر البصير بالنفس الإنسانية والأعراق غوستاف لوبون: "ويتصف البنغالي بالقِصَر والهزال والاسمرار والتكرّش، ويهضم ما يلقَّنه، ويبدو البنغالي من الناحية الخلقية جبانًا نذلاً مرائيًا"!
لو رأيتم صاحبي لقلتم: إن لوبون قد أرخي له شيء من سُجُف الغيب فهو يصفه رأي العين، أَوَ ما كنتُ قلتُ في مقالة سابقة: كاد صاحب المعرفة أن يكون عرّافًا ..
(قال لوبون ذلك في كتابه "حضارات الهند"، وإذا أردت أن تعرف كيف تكتب الدراسات الحضارية فعليك بهذا الكتاب، مع كتابه الآخر "حضارة العرب"، على ما فيهما مما ليس يخفى، فقد كان لوبون سيئ القول في الأديان، وهذا من عجائب العقول التي لم تهتد بنور الوحي).
لكن كرهي لصاحبنا لا يداني كرهي الوقوف في الطابور، أنا ما كرهت من الحياة شيئًا ما كرهت الوقوف في هذه الطوابير: طابور الصباح، طابور الكشف الطبي، طابور استلام الرواتب، طابور المراجعات الحكومية، طابور التسوق، طابور فرانكو الخامس ...
ومع احترامي للغربي الذي قال: "إن طريقة الوقوف في الطابور هي خير دليل على درجة رقي مجتمع من المجتمعات"؛ فلن أقف منضبطًا في طابور إن وقفت، وليقل عني مقوّم الحضارات هذا ما يشاء.
ثم إن العرب كانت تعرف الصفّ لا الطابور، فمن أين جاءنا هذا الذّل حتى يقف الرجل ووجهه في مؤخرة من يتقدمه، ومؤخرته في وجه من يقف خلفه؟ هل يقابل الغربي عبادة الصف في المسجد عند المسلمين؛ بعبادة الطابور؟ (قال محمود السعدني: إذا كان في ملة الإسلام لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ففي ملة الإنجليز لا فضل لعربي على عجمي إلا بالدور!).
هل للأسبقية الحضارية واستعلاء التقدم أثر على الفرق بين ثقافة الصف وفلسفة الطابور؟
هل أنا مصاب -لا سمح الله- بداء التاريخ؟
ليتك تقلّب هذه الكلمة لنديم نجدي لتخرّج عليها ما أحسه من هذا الهبوط المفاجئ الذي يصيبني بالدوار الحضاري حين أقف في طابور: "للشرقيين غرور أسبقيتهم الحضارية في التاريخ، وللغربيين استعلاء تقدمهم الحضاري على التاريخ".
عندما زرتُ رومانيا – نسيت أن أخبرك بأني أكره كذلك من يتحدث عن أسفاره على أنها مظهر من مظاهر الثقافة –توقف بنا سائق الأجرة عند أحد المخابز، لم أكن رأيت عن قرب الأثر الذي تخلفه الشيوعية على هذه الشعوب البائسة؛ حتى رأيت أطول طابور معوجٍّ يقف عند أصغر نافذة مخبز ..
كانت رومانيا قد تحررت غير بعيد من أسر النظام الشيوعي، لكن الطبقة الكادحة "البروليتاريا" (هل كتبتها على الصحيح؟ كان لنا أخ في الله يسمي "البروتستانت": "البروستاتا"!
جعل كالْفِن ولوثر من أطباء المسالك البولية! ما علينا).
هذه الطبقة الكادحة هي التي تدفع من الثمن في مثل هذه التحولات الحادّة ضعف ما كانت تدفعه من قبل.
ذلك المنظر الغريب كان من بقايا عهد الشيوعية النّكد، فما أصدق ما قاله بعض الساخرين حين عرّف الشيوعية بأنها: "النظام الذي ينتج طوابير يتقدم فيها المرء في السن بعض الشيء قبل أن يحصل على حاجته"!
لكن إن تحرّينا الدّقة؛ في البلدان الشيوعية أو في غيرها: حين لا تستقيم الحكومات تعوجّ الطوابير، وحين تعوجّ الطوابير تنحني الجباه للحياة .. كرهت أن أنحني للحياة؛ فهل فهمت عني: لمَ لمْ أكره شيئًا من مكاره الحياة ما كرهت الوقوف في هذه الطوابير.
على أنه إن كان ولابد من انحناءة فانحناءة من قال:
معلّق أنا على مشانق الصباح
¥