تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

((ومن حقق نظره في صحيح مسلم ـ رحمه الله ـ واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحرّي في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره وقلّ من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)) [شرح النووي: 1/ 23].

وهذا هو رأي غيره من العلماء الفاهمين المهتمين بالحديث، ولم يكن قولي إلا اختصاراً لأقوالهم بعد قناعتي بصوابها ووجاهتها، إلا أن الأستاذ يفهم من قولي شيئاً غريباً، ثم يتساءل ((كأن الإمام مسلم من كبار أهل الباطن؟ وما هي وجوه الاختلاف التي وردت في رواية ذلك الحديث؟ وما أثرها؟ إن وجوه الاختلاف تدل على الاضطراب والعلل ... )) وإن دلَّ هذا على شي فإنه يدل على مدى بُعْده عن هذا العلم العظيم.

ومن ثَمَّ خلط الأمور تخليطاً فاحشاً، إذ جعل الاختلاف فيما اختاره الإمام مسلم في صحيحه من الروايات الصحيحة الثابتة، وهو تخليط فاحش بل تحريف كلامي عن ظاهره، لأنني لم أقل إن الوجوه والاختلافات التي يستحضرها الحفاظ هي ذات ما أورده مسلم في الصحيح من الروايات الصحيحة، وإنما جعلتها في رواية الحديث عموماً، حيث قلت: (( ... الحفاظ الذين إذا سمعوا ذلك الحديث يستحضر في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها)).

وأنت خبير أن الإمام مسلماً وغيره من أصحاب الصحاح يختارون روايات الثقات ويصنّفوها على اختلاف مناهجهم.

وللتوضيح أقول: إن الرواة في غالب الأوقات لا يتفقون عند روايتهم للأحاديث إلا إذا كانوا ثقات متقنين، وأما الرواة الضعفاء فعندما يُشاركون الثقات في الرواية يوافقونهم أو يخالفونهم حسب الخلل في ضبطهم، وأما المتروكون فدائماً يُخالفونهم اللهم إلا نادراً.

فهذا هو السر في تقسيم الإمام مسلم للأحاديث ورواتها على ثلاثة أقسام، واختياره منها ما تناقله الثقات، ومن دونهم إذا لم ينفردوا به، وتجنب المتروكين، كما يأتي بيانه مُفصلاً إن شاء الله تعالى.

فالحديث عندما يشترك في روايته الثقاة والضعفاء والمتروكون فيندر الاتفاق بينهم فيه، إذ أن المتروكين لا يضبطون أحاديثهم سنداً ومتناً، ولا يتقنون ما سمعوه من شيوخهم من الروايات، فيتخبطون عند التحديث بها، ويقبلون الإسناد بإضافة الحديث لغير راويه، أو يتداخل عليهم الأسانيد وما إلى ذلك من الأوهام، وأما الثقات فيضبطون الحديث وويتقنون روايته كما سمعوا من شيوخهم إلا نادراً، والضعفاء الثقة ثقة والضعيف ضعيفاً والمتروكون متروكاً.

فشأن الحديث حين يصل إلى الطبقات المتأخرة من الرواة الذين تدور عليهم الأحاديث أن يتكون منه تاريخ ذو أبعاد، يستفيد منه جهابذة المحدثين أموراً علمية، وثروات من المعلومات التي تتعلق بأحوال الرواة والمرويان.

وعلى سبيل المثال أذكر حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ((إنما الأعمال بالنيات)) وهو من الأحاديث المشهورة الصحيحة، فلما وصل هذا الحديث إلى يحي بن سعيد بدأ يشتهر في مُختلف البلدان، وتتعدد الطرق عنه، لكنه قبل رواية يحي بن سعيد فردٌ غريب، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلا يحي بن سعيد، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم، ولم يروه عن عمر إلا علقمة، كما قرره الناقدون.

ويحي بن سعيد الأنصاري إمام الأئمة المشهورين بالمدينة حفظاً وجمعاً واتقاناً، يجتمع في حلقته جمع كبير من طلبة الحديث من مختلف البلدان ليسمعوا منه الأحاديث، ومن المُسْتحيل عُرْفاً أن يكون هؤلاء الرواة كلهم في حالة واحدة من الضبط وقوة الذاكرة والحفظ والإتقان والاهتمام والتركيز والنشاط، فإن فيهم الثقات من أهل المدينة وغيرها،وفيهم الضعفاء والمتروكون، كما هو واضح من تقسيم الأئمة أصحاب الزهري وغيره من حُفّاظ الحديث الذين تدور عليهم الأحاديث، وإذا أردتَ المزيد من التفصيل فعليك أن تراجع الصفحات التالية من كتاب ((شرح العلل)) لابن رجب الحنبلي (تحقيق صبحي السامرائي ـ 230 ـ 233 ـ 261 ـ 307).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير