فحين روى الضعيف أو المتروك هذا الحديث عن يحي أو عن أحد من الصحابة بدأيتخبط فيه وينقلب عليه الإسناد، ويُضيف الحديث إلى غير عمر، أو يُغيّر ما سمعه منه إما تعمّداً أو خطأ، كما وقع ذلك فِعْلاً في رواية هذا الحديث، فقد نسبه نسبه بعضهم إلى أبي سعيد، وآخر إلى علي بن أبي طالب، وآخر إلى أنس، وآخر إلى أبي هريرة، وأما الثقاة فيحفظونه ويضبطونه ويتقنونه ثم يحدثون به عن يحي بن سعيد كما سمعوا منه غالباً.
فهذا الحديث المشهور أورده الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما من طرق صحيحة، بعد اختيارهما لها من مجموعة كبيرة من الروايات، ثم أجاد الإمام مسلم بترتيبها حسب الأصح فالأصح، كما وعد به في المقدمة.
والحافظ المُتأخر الذي حفظ هذا الحديث من جميع طرقه حين يراه في الصحيح ـ مثلاً ـ يستطيع استحضار جميع الوجوه التي وردت في روايته واختلافها عموماً، لأنه يحفظه كذلك، هذا هو الذي قلت: ... الحفاظ الذين إذا سمعوا الحديث يستحضرون في قلوبهم كل الوجوه التي وردت في رواية ذلك الحديث واختلافها.
فجاء الأستاذ هنا ليفهم منه ما يفهمه الصبيان، ثم بدأ يتخبط، ويخلط هذه الأمور الواقعة تخليطاً فاحشاً، ويجعل الاختلاف والاضطراب فيما أورده مسلم أو فيما اختاره في صحيحه مرويات أهل الاستقامة، ثم يتساءل: ((وما هي وجوه الاختلاف التي وردت رواية ذلك الحديث وما أثرها؟ إن وجوه الاختلاف تدل على الاضطراب، ومسلم يقول عن أهل الاستقامة لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، فكيف يُصرّح بتجنب هذا النوع والابتعاد عنه ثم يُحاول في خلسة ... إلى آخر كلامه، وقد صدق الشاعر إذ قال:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ### وآفته من الفهم السقيم
ونعود بعد هذا الاستدراك إلى ما كتبته له فيما يختص النقطة الثانية، وهذا نصه:
((ومع ذلك له تصرّف علمي آخر في صحيحه، وهو بيان العلة في بعض المواضع منه، وذلك بعد أن أخرج الحديث من طرق صحيح في الأصول، وإن كان لذلك الحديث عِلّة من بعض الطرق فيبين العلة إذا كان المكان مناسباً للبيان، وذلك بذكر طرقه المعللة خارج الأصول ومقصود الكتاب وموضوعه، وهذا البيان ليس بمقصود أصلي صنف وجمع لأجله هذا الكتاب الصحيح، بل إنما هو لغرض استطرادي تعرض لبيانه للمناسبة بذلك المقام، وبناء على ما وعده في مقدمة صحيحه، وهو يقول: وسنزيد إن شاء الله شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأمان التي يليقُ بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى)).
وخلاصته: يشرح الإمام مسلم العلل في بعض مواضع من الكتاب حسب المناسبة والمُقتضى، وهو تصرّف علمي آخر لا علاقة له بالترتيب كما هو مُعتاد عند المحدثين في مُصنّفاتهم كالصحاح والسنن والمسانيد والمصنّفات، وبيان العلل إنما هو بذكر وجوه الاختلاف وليس بالتقديم والتأخير كما فهمه الأستاذ.
فهذا كلامي واضح وبَيّن وجليّ في تقرير ما صرّح به الإمام مسلم في مقدمته من ترتيب الأحاديث حسب القوة والسلامة، ومن بيان العلل في بعض المواضع من الصحيح التي تقتضيه، ويكون ذلك البيان بذكر وجوه الاختلاف خارج الأصول، فأين يكمن الخطر الذي أثار الغيرة عند الأستاذ الغيور؟ وأنني لم أقل إلا بما صرّح به الإمام مسلم في مقدمته، فاتضح الأمر أنني لم أجعله قاعدة جديدة، ولم يكن سياق نصوصي بحيث يُفهم منه ما فهمه الأستاذ، بل كان ذلك مما صنع الأستاذ بيديه ليثور إليَّ على حساب الدين والعقيدة.
ومن هنا كان يُلفّق بين نصوصي الواردة في تحرير هاتين المسألتين المُسْتقِلّتَين، ثم أخذ يُفسّرها بما يهدئ أعصابه المتوترة، ويطيب به نفسه لكي يدعي عليَّ أن الإمام مسلماً يلتزم بيان العلل في صحيحه وأن ذلك البيان إنما يكون بالتقديم والتأخير، أليس هذا افتراء علَي؟
استمع إلى الأستاذ يقول:
¥