فهذا النسيان الجبلي الذي هو من طبيعة البشر يفتح المجال للاستدراك على الغير، وإن كان ذاك الغير احفظ واضبط وأوسع رواية إلا أنه ليس معصوماً من الخطأ والنسيان
وأكمل ما بدأت به فأقول: لا يوجد لدينا كتاب حوى بين طياته القواعد التي سار عليها أئمة الحديث في التمييز بين الصحيح والضعيف إلا الكتب التي جمعت مرئيات الأئمة حول الأحاديث ككتاب العلل لعلي بن المديني والمطبوع ماهو إلا جزء صغير، والمرويات عن يحيى بن معين كرواية الدوري، الدقاق، ابن محرز، الدارمي، ابن الجنيد، الطبراني وأغلب مادة هذا الروايات الكلام في الرجال، والمرويات عن أحمد بن حنبل وقد جمعت في " موسوعة الإمام أحمد بن حنبل في رجال الحديث وعلله " نشر عالم الكتب في أربع مجلدات، وأحكام البخاري على الأحاديث الموجودة في كتاب " سنن الترمذي " و " علله " أو في " السنن الكبرى للبيهقي " أو " التلخيص الحبير " أو " فتح الباري " وأيضاً كتاب " العلل" لا بن أبي حاتم وكتاب " التمييز " لمسلم، وكتاب " السنن " و " العلل " كلاهما للترمذي، وسؤالات الآجري لأبي داود وكتاب " السنن " له، وكذلك كلام النسائي في
" المجتبى " و" الكبرى "، وأيضاً كتاب " الضعفاء " للعقيلي، و" البحر الزخار " للبزار " وكتب الطبراني الكبير والأوسط والصغير، وكتب أبن أبي عاصم، وكتب ابن الأعرابي، وكتاب " الكامل " لا بن عدي، وكتب الدارقطني كالسنن والعلل وغيرهم لا نجد فيها قواعد ثابتة لا تقبل النقاش إلا النزر اليسير.
بعد هذا يتبادر لدي سؤال وهو: من أين هذه القواعد التي تنادون بها وترتبون على من لم يتقيد بها أنه على خلاف منهج المتقدمين؟
الجواب: إنها مجرد خواطر تخطر في بال أحدهم نتيجة مثال أو مثالين أو أكثر، فيطرحها كأنها وحي السماء، ليته يقول: هذا ما توصل إليه بحثي واجتهادي لهان الخطب، إنما رتب على من خالفه في هذه النتيجة أنه لا يعرف علم الحديث ولا يعرف منهج المتقدمين وأنه على طريقة الفقهاء وأهل الأصول.
والخلاف حاصل بين المتقدمين لا يمكن نفيه فقد يرجح الحافظ الرواية المقطوعة على الموصولة المرفوعة.
ويخالفه آخر فيرجح الرواية الموصولة على الرواية الموقوفة.
وقد يميل أحد الحفاظ إلى عدم سماع فلان من فلان، بينما يخالفه آخرون فيرجحون السماع نتيجة حصولهم على رواية فيه التصريح بالسماع، والنافي قد يطلع عليها غير أنه لم تترجح لديه القرائن والاطمئنان لرواية التصريح ومن الممكن أن لا يطلع عليها، أما المثبت فاطمئن قلبه وانشرح صدره لرواية التصريح بالسماع.
وقد يرجح الحافظ الرواية المرسلة على الرواية الموصولة، ويخالفه آخر: فيميل إلى ترجيح رواية الوصل ويقدمها على رواية الإرسال، وثالث: يستوي عنده الطرفان فيتوقف فلا يميل إلى هذا أو ذاك.
وقد يقف ـ أيضاً ـ الحافظ على طريق روي مرة بواسطة، ومرة بدون واسطة، فيترجح لديه الطريق الذي فيه ذكر الواسطة، ويخالفه غيره فيترجح لديه الطريق الذي ليس فيه ذكر واسطة، ويأتي ثالث ويرجح الوجهين؛ لأن فلان واسع الرواية فيجوز حينئذ أنه سمعه من فلان بواسطة، وسمعه من فلان بدون واسطة، يعن
ي فحدث به عن هذا تارة، وعن هذا تارة، وقال: ومثل هذا الجمع لا بد منه، لأن توهيم الثقة لا يجوز بغير حجة.
وقد يقبل حافظ زيادة كذا، ويخالفه آخر فيحكم عليها بالشذوذ.
مثل زيادة النهار في حديث ابن عمر مرفوعاً: " صلاة الليل مثنى مثنى ... "
رواه عن ابن عمر جمع من الثقات وفيهم المختص به كولده سالم، ونافع، وعبدالله بن دينار، وطاووس وغيرهم
وزاد علي بن عبدالله البارقي لفظة " النهار " وليس في سياق روايته: " فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة ... "
وقد حكم على هذه الزيادة بالشذوذ جماعة من الحفاظ كالنسائي، والترمذي، وأحمد، والدارقطني، والعقيلي، وابن عبدالبر وغيرهم.
بينما نجد جماعة من الحفاظ ـ أيضاً ـ قبلوا هذه الزيادة وقالوا: أنها تلتحق بزيادة الثقة ولا تلتحق بالشذوذ، وعلى رأس هؤلاء جبل الحفظ الإمام البخاري، وابن خزيمة، وابن حبان، والخطابي، والبيهقي، وابن حزم، والنووي وغيرهم.
قلت: ومن قبل زيادة البارقي علل ذلك بقوله: أحتج به مسلم، والزيادة من الثقة مقبولة.
والبارقي هذا روى عنه جماعة وروى له مسلم في صحيحه
¥