قال الإمام الجليل ابن أبي حاتم في كتابه العظيم " الجرح والتعديل " (2/ 37) ما نصه:
" وجدتُ الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى:
وإذا قيل للواحد: إنه ثقة، أو متقن ثبت: فهو ممن يحتج بحديثه، وإذا قيل له: صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به: فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية، وإذا قيل: شيخ: فهو بالمنزلة الثالثة يكتبُ حديثه وينظر فيه: إلا أنه دون الثانية، وإذا قيل: صالح الحديث: فإنه يكتب حديثه للاعتبار، وإذا أجابوا في الرجل ب (لين الحديث)، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اغتباراً، وإذا قالوا: ليس بقوي: فهو بمنزلة الأولى في كتبة حديثه، إلا أنه دونه، وإذا قالوا: ضعيف الحديث: فهو دون الثاني لا يُطْرَحُ حديثه، بل يعتبر به، وإذا قالوا: متروك الحديث، أو ذاهب الحديث، أو كذاب: فهو ساقطٌ الحديث لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة ".
وبما أن الكلام حول الحديث الحسن لغيره، فإن من المسطر في كتب مصطلح الحديث وعلومه تقوية الحديث الضعيف بكثرة الطرق، اقتباساً منهم (أي علماء الحديث) من مثل قوله تعالى في شهادة المرأة: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)
] البقرة: 282 [.
وتطبيق هذه القاعدة لا يستطيع النهوض به إلا القليل من المشتغلين بهذا العلم الشريف فضلاً عن غيرهم؛ لأنه يتطلب معرفة واسعة بالأحاديث، وطرقها وألفاظها، وموضع الاستشهاد منها، ولا يساعد على ذلك في كثير من الأحيان الاستعانة بفهارس أطراف الحديث، وإنما هو العلم القائم في نفس المتمرس بها زمناً طويلاً.
وأحسن من تكَّلم على هذه القاعدة ودعَّمها بما آتاه الله ـ تعالى ـ من علم؛ إنما هو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في " مجموع الفتاوى" (18/ 25ـ 26) فقال ـ وما أجمل ما قال ـ:
" والضعيف عندهم نوعان:
ضعيف لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي.
وضعيف ضعفاً يوجب تركه، وهو الواهي.
وقد يكون الرجل عندهم ضعيفاً لكثرة الغلط في حديثه؛ ويكون الغالب عليه الصحة] فيروون حديثه [لأجل الاعتبار به والاعتضاد به؛ فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضاً،
حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فُجَّاراً فُسّاقاً، فكيف إذا كانوا علماء عدولاً، ولكن كثر في حديثهم الغلط! وهذا مثل عبدالله بن لهيعة؛ فإنه من كبار علماء المسلمين، وكان قاضياً في مصر، كثير الحديث، لكن احترقت كتبه فصار يُحدث من حفظه، فوقع في حديثه غلطٌ كثيرٌ، مع أنَّ الغالب على حديثه الصحّة، قال أحمد: " قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به، مثل ابن لهيعة ".
ولقد أبان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كلمات أخرى عن السبب في تقوية الحديث الضعيف بالطرق، والشرط في ذلك، ووجوب التمسك بهذه القاعدة فقال في " مجموع الفتاوى " (13/ 347):
" والمراسيل إذا تعددت طرقها، وخلت عن المواطأة قصداً، أو] كان [الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعاً؛ فإن النقل إما أن يكون صدقاً مطابقاً للخبر؛ وإما أن يكون كذباً تعمّد صاحبه الكذب، أو أخطأ فيه، فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقاً بلا ريب.
فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات، وقد علم أن المخبرين لم يتواطأ على اختلاقه، وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقاً بلا قصد؛ علم أنه صحيحٌ؛ مثل شخص يحدث عن واقعة جرت، ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، ويأتي شخص آخر قد عُلم أنه لم يواطىء الأول، فيذكر مثل ما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال، فيعلم قطعاً أن تلك الواقعة حق في الجملة، فإنه لو كان كل منهما كذبهما عمداً أو خطأ؛ لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه، فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتاً وينظم الآخر مثله، أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها، أما إذا أنشأ قصيدة طويلة ذات فنون على قافية وروي فلم تجر العادة بأن غيره ينشيء مثلها لفظاً ومعنى مع الطول المفرط، بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه، وكذلك إذا حدث حديثاً طويلاً فيه فنون، وحدث آخر بمثله،
فإنه إما أن يكون واطأه عليه أو أخذه منه، أو يكون الحديث صدقاً.
¥