" وسُئِلَ -رحمه الله- عن تاركِ الصلاة من غير عُذر، هل هو مسلم في تلك الحال؟ فأجاب: أما تارِكُ الصلاةِ: فهذا إن لم يكن مُعتَقِداً لوجوبها فهو كافر بالنَّصِّ والإجماع، لكن إذا أسلمَ ولم يَعْلَمْ أن اللهَ أوجبَ عليه الصلاة، أو وجوب بعض أركانها: مثل أن يصلي بلا وضوء، فلا يعلم أن الله أوجب عليه الوضوء، أو يصلي مع الجنابة فلا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة، فهذا ليس بكافر، إذا لم يَعْلَمْ.
لكن إذا عَلِمَ الوجوب: هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد ومالك وغيرهما. قيل: يجب عليه القضاء، وهو المشهورُ عن أصحاب الشافعي وكثيرٍ من أصحاب أحمد، وقيل: لا يجبُ عليه القضاء وهذا هو الظاهر.
وعن أحمد في هذا الأصل روايتان منصوصتان فيمن صلَّى في معاطن الإبل، ولم يكن يعلم النهي، ثم علم، هل يُعيد؟ على روايتين، ومن صلى ولم يتوضأ من لُحومِ الإبل، ولم يكن عَلِمَ بالنهي، ثم عَلِمَ. هل يعيد؟ على روايتين.
وقيل: عليه الإعادة: إذا ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها في دار الإسلام دون دار الحرب، وهو المشهورُ من مذهب أبي حنيفة، والصائم إذا فعل ما يفطر به جاهلاً بتحريم ذلك: فهل عليه الإعادة؟ على قولين في مذهب أحمد. وكذلك من فعل محظوراً في الحج جاهلاً.
وأصل هذا: أن حكم الخطاب: هل يثبت في حق المكلف قبل أن يبلغه؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يثبت. وقيل: لا يثبت. وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ. والأظهر أنه لا يجب قضاء شيء من ذلك، ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلاغ، لقوله تعالى:?لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ومَنْ بَلَغَ?، وقوله:?وما كُنَّا مُعَذِّبينَ حتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً?، ولقوله:?لِئَلاَّ يَكُونَ للناسِ على اللهِ حُجَّةٌ بعدَ الرُّسُلِ? ومِثلُ هذا في القرآن مُتَعَدِّدٌ، بَيَّنَ سُبحانَهُ أنه لا يُعاقبُ أحداً حتى يبلغه ما جاءَ به الرسول.
ومَنْ عَلِمَ أنَّ محمداً رسول الله، فآمن بذلك، ولم يَعْلَم كثيراً مما جاء به، لم يُعَذِّبْهُ الله على مالم يَبْلُغْه، فإنه إذا لم يُعَذِّبْهُ على تَرْكِ الإيمانِ بعد البلوغِ. فإنه لا يُعذِّبْهُ على بعض شرائِطِه إلا بعد البلاغ أولى وأحرى، وهذه سنة رسول الله ? المستفيضة عنه في أمثال ذلك.
فإنه قد ثبت في الصحاح أن طائفة من أصحابه ظنوا أن قوله تعالى:?الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ? هو الحبل الأبيض من الحبل الأسود، فكان أحدهم يربط في رجله حبلاً، ثم يأكل حتى يتبين هذا من هذا فبين النبي ?: أن المرادَ بياضُ النهارِ وسوادُ الليلِ، ولم يأمُرْهُم بالإعادة.
وكذلك عمرُ بن الخطاب وعمَّارُ أَجْنَبَا، فلم يُصَلِّ عمرُ حتى أدركَ الماءَ، وظن عمَّارُ أنَّ الترابَ يَصِلُ إلى حيثُ يَصِلُ الماء، فتَمَرَّغَ كما تَمَرَّغُ الدابة، ولم يأمر واحداً منهم بالقضاء، بل أمره بالتيمم في المستقبل.
وكذلك المستحاضَة قالت: إني اُسْتحاضُ حَيْضَةً شديدةً تمنعني الصلاةَ والصوم، فأَمَرَها بالصلاةِ زمنَ دمِ الاستحاضةِ، ولم يَأْمُرْها بالقضاءِ.
ولما حُرِّمَ الكلام في الصلاة تَكَلَّمَ معاوية بن الحكم السلمي في الصلاة بعد التحريم جاهلاً بالتحريم، فقال له: " إنَّ صلاتَنا هذه لا يَصْلُحُ فيها شيءٌ مِن كلامِ الآدَمِيِّينَ " ولم يأمره بالإعادة.
ولما زِيدَ في صلاة الحَضَر حين هاجر إلى المدينة، وكان من كان بعيداً عنه: مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة يُصَلُّون ركعتين، ولم يأمرهم النبي بإعادة الصلاة.
ولما فرض الله شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ولم يبلغِ الخبرُ من كان بأرض الحبشة من المسلمين، حتى فات ذلك الشهر لم يَأْمُرْهُم بإعادة الصيام.
وكان بعض الأنصار - لمَّا ذهبوا إلى النبي ? من المدينة إلى مكة قبل الهجرة - قد صلى إلى الكعبة معتقداً جواز ذلك قبل أن يُؤْمَرَ باستقبال الكعبة، وكانوا حينئذ يستقبلون الشام، فلما ذُكِرَ ذلك للنبي ?، أمره باستقبال الشام، ولم يأمره بإعادة ما كان صلى.
¥