وثبت عنه في الصحيحين أنه سُئِلَ - وهو بالجعرانة: عن رجل أحرم بالعمرة، عليه جُبَّةٌ، وهو مُتَضَمِّخٌ بالخلوق، فلما نزل عليه الوحي قال له: " إنزع عنك جُبَّتَكَ، واغسلْ عنكَ أثرَ الخلوقِ، واصنع في عُمْرَتِكَ ما كنتَ صانعاً في حَجِّكَ ". وهذا قد فعل محظوراً في الحج، وهو لُبْسُ الجبة، ولم يأمره النبي ? على ذلك بدم، ولو فعل ذلك مع العِلْمِ لَلَزِمه دم.
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال للأعرابي المسيء في صَلاتِه: " صَلِّ فإِنَّكَ لم تُصَلِّ -مرتين أو ثلاثاً - فقال: والذي بَعَثَكَ بالحقِّ ما أُحسِنُ غير هذا، فَعَلِّمْنِي ما يجزيني في الصلاة، فعَلَّمَهُ الصلاةَ المجزية " ولم يأمره بإعادة ما صَلَّى قبلَ ذلك، مع قوله ما أُحْسِنُ غير هذا، وإنما أمره أن يُعِيدَ تلك الصلاة؛ لأن وقتَها باقٍ، فهو مُخَاطَبٌ بها، والتي صَلاَّهَا لم تبرأ بها الذِّمَّةُ، ووقتُ الصلاةِ باقٍ.
ومعلوم أنه لو بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طَهُرتْ حائض، أو أفاق مجنون، والوقت باق لزمتهم الصلاة أداءً لا قضاءً، وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم. فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجوب الطمأنينة في أثناء الوقت فوجبت عليه الطمأنينة حينئذ، ولم تجب عليه قبل ذلك؛ فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة ذلك الوقت، دون ما قبلها.
وكذلك أمرُهُ لمن صلى خلف الصف أن يُعيد، ولمن ترك لُمْعَةً من قدمِهِ أن يعيد الوضوء والصلاة، وقولُه أولاً: "صلِّ فإنك لم تصلِّ " تبين أن ما فعله لم يكن صلاة، ولكن يعرف أنه كان جاهلاً بوجوب الطمأنينة، فلهذا أمره بالإعادة ابتداءً، ثم علَّمهُ إياها، لما قال: والذي بعثك بالحق لا أُحسنُ غير هذا.
فهذه نصوصه - ? - في محظورات الصلاة والصيام والحج مع الجهل فيمن ترك واجباتها مع الجهل، وأما أمره لمن صلَّى خلف الصف أن يُعيد فذلك أنه لم يأتِ بالواجبِ مع بقاء الوقت. فثبتَ الوجوبُ في حقه حين أمره النبي ? لبقاء وقت الوجوب، ولم يأمره بذلك مع مُضِيِّ الوقت.
وأما أمْرهُ لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها الماء بالإعادة، فلأنه كان ناسياً، فلم يفعل الواجب، كمَن نسي الصلاة، وكان الوقت باقياً، فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون في الوقت وبعده. أعني أنه رآى في رجل رجل لمعة لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، رواه أبو داود. وقال أحمد بن حنبل حديث جيد.
وأما قوله: " ويْلٌ للأعقاب من النار " ونحوه. فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء ليس في ذلك أمر بإعادة شيء، ومن كان أيضاً يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو عن المشايخ الواصلين، أو بعض أتباعهم، أو أن الشيخ يصلي عنهم، أو أن لله عباداً أسقط عنهم الصلاة، كما يُوجدُ كثير من ذلك في كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد، واتباع بعض المشايخ والمعرفة، فهؤلاء يُسْتَتَابونُ باتفاق الأئمة، فإن أقرُّوا بالوجوب، وإلا قُتِلوا، وإذا أصرُّوا على جحد الوجوب حتى قُتِلوا، كانوا من المرتدين، ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قَوْلَي العلماء، فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين، وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين للوجوب.
فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام، فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء، كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والأُخرى يَقضِي المرتدُّ. كقول الشافعي والأول أظهر.
فإن الذين ارتدوا على عهد رسول الله ? كالحارث بن قيس، وطائفة معه أنزل الله فيهم:?كيفَ يَهْدِي اللهُ قوماً كَفَروا بَعْدَ إيمانِهِم? الآية، والتي بعدها. وكعبدالله ابن أبي السرح، والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر، وأنزل فيهم:?ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ للذينَ هاجَروا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنوا ثُمَّ جاهدُوا وصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِها لغفورٌ رحيمٌ?. فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبدالله بن أبي السرح عاد إلى الإسلام عام الفتح، وبايعه النبي ? ولم يأمر أحداً منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا.
وقد ارتد في حياته خلقٌ كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تَنَبَّأَ بصنعاء اليمن، ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام، ولم يُؤْمَروا بالإعادة.
¥