وكذا لو جحد وجوب رُكنٍ واحد فقط، كفر إذا كان مُجْمَعاً عليه، واستثنى العلماء من ذلك ما إذا كان حديثَ عهدٍ بكفر وجحد وجوبَها، فإنه لا يكفر، لكن يُبَيَّنُ له الحق، فإذا عرض له الحق على وجه بَيِّنٍ ثم جَحَد كَفَر، وفي هذه المسألة التي استثناها العلماء دليل على أنه لا فرق بين الأمور القطعية في الدين، وبين الأمور الظنية في أن الإنسان يُعْذَرُ بالجهل فيها.
قوله: (وكذا تاركُها تَهَاوُناً، ودعاهُ إمامٌ أو نائِبُه، فأَصَرَّ وضاقَ وقتُ الثانية عنها) فَصَلَ هذه المسألةَ عن الأُولى؛ لأن هذه لها شروط، فإذا تَرَكَها تَهاوناً وكسلاً مع إقراره بفرضيتها، فإنه كَفَرَ كُفْراً أكبرَ مُخْرِجاً عن الملةِ، ولكن بشرطين:
الأول: (دَعَاهُ إمامٌ أو نائِبُهُ).
الثاني: قوله (وضاقَ وقتُ الثانيةِ عنها) فإنه يكفر، وعليه فإذا ترك صلاة واحدة حتى خرج وقتها، فإنه لا يكفر، وظاهره أنه سواء كانت تُجْمَعُ إلى الثانية أو لا تُجْمَعُ، وعلى هذا فمذهب الإمام أحمد المشهور عند أصحابه أنه لا يمكن أن يحكم بكفر أحد ترك الصلاة في زماننا لأنه إذا لم يَدْعُهُ الإمام لم نَتَحَقَّقَ أنه تركها كسلاً. إذ قد يكون معذوراً، لكن إذا دعاه الإمامُ وأصرَّ، عَلِمْنا أنه ليس معذوراً.
وأما تضايق وقت الثانية دون الأُولى؛ فلأنه قد يَظُنُّ جواز الجمع من غير عذر. فلاحتمال هذا الظن لا نحكم بكفره.
ولكن القول الصحيح بلا شك ما ذهب إليه بعض الأصحاب من أنه لا أثر لدعوة الغمام؛ لعدم وجود الدليل، وأيضاً في المسألة الأخرى - وهي ما إذا ترك الصلاة جحوداً - هل تقولون لا يكفر إلا إذا دعاهُ الإمامُ؟ واحتمالُ العذر فيها كاحتمال العذر في تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً.
وقال بعض العلماء: يكفر بترك فريضة واحدة، ومنهم مَن قال: بفريضتين، ومنهم من قال بترك فريضتين إن كانت الثانية تُجْمَعُ إلى الأُولَى، وعليه فإذا ترك الفجر فإنه يكفر بخروج وقتها، وإن ترك الظهر، فإنه يكفر بخروج صلاة العصر.
والذي يظهر من الأدلة أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة دائماً، فإن كان يصلي فرضاً أو فرضين فإنه لايكفر، وذلك لقول النبي ?: " بينَ الرجلِ وبينَ الكفرِ تركُ الصلاةِ فمنْ تركَها فقدْ كَفَر "، فهذا ترك صلاةً لا الصلاةَ، ولأن الأصل بقاء الإسلام، فلا نُخْرِجُهُ منه إلا بيقين؛ لأن ما ثبت بيقين لا يَرتفعُ إلا بيقين؛ فأصل هذا الرجل المعين مسلم.
وقال بعض العلماء: لا يكفر تاركها كسلاً.
وقولُ الإمام أحمد: بتكفير تارك الصلاة كسلاً، هو القولُ الراجحُ، والأدلة تدل عليه من كتاب اللهِ وسنةِ الرسولِ، وأقوالِ السلفِ، والنظرِ الصحيحِ.
أما الكتابُ: فقوله تعالى عن المشركين:?فإِنْ تابُوا وأقامُوا الصلاةَ وآتَوُا الزكاةَ فإِخوانُكُم في الدِّينِ .. ?. فاشترط الله للتوبة ثلاثة شروط، فإذا لم تتحقق فليس بمسلم، وذلك لأن أُخُوَّةُ الدين لا تنتفي بالمعاصي وإن عَظُمَتْ، أما تاركُ الزكاةِ فمن العلماء مَن التزمَ بذلك، وقال: بأنه كافر، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، ولكن يمنع هذا القول ما ثبت في صحيح مسلم فيمن آتاه الله مالاً من الذهب والفضة ولم يؤد الزكاة، " ثم يُقضَى بين العباد فيُرى سبيلُه إما إلى الجنةِ وإما إلى النار ". وهذا يدل على أنه ليس بكافر؛ إذ لو كان كذلك لم يجد سبيلاً إلى الجنة.
وأما من السنة: فقال النبي ?: " بينَ الرجلِ وبينَ الشِّركِ والكفرِ تركُ الصلاةِ " وقال: " العهدُ الذي بيننا وبينهُم الصلاةُ فمن ترَكَها فقد كَفَر ". والبينيةُ تَقتَضِي التمييزَ بين الشيئين، فهذا في حَدٍّ، وهذا في حَدٍّ.
وقوله من الحديث " الكفر " أتى بأل الدال على الحقيقة، وأن هذا كفرٌ حقيقي وليس كفراً دون كُفر، وقد نبه على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، فلم يقل ?: " كفر "، كما قال: " اثنتان في الناس هما بهم كفر". وإنما قال: " بين الرجل وبين الشرك والكفر " يريدُ بذلك الكفرَ الحقيقيَّ والكُفرَ المخرجَ عن الملة.
¥