تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

عَرِي عن الاعتقاد وأما الجهمية الذين يقولون: " هو مجرد المعرفة والتصديق بالقلب فقط وإن لم يتكلم بلسانه ". فلهم مأخذ آخر، وهو أنه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فإذا كان في قلبه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهارُ خلاف ذلك بلسانه في الباطن، كما لا ينفع المنافقَ إظهارُ خلافِ ما في قلبه في الباطن.

الجواب على الشبهة الأولى:

وجواب الشبهة الأولى من وجوه:

أحدها: أن الإيمان وإن كان أصلُه تصديق القلب فذلك التصديق لابدَّ أن يوجب حالاً في القلب وعملاً به، وهو تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته، وذلك أمر لازم كالتألم والتنعم عند الإحساس بالمؤلم والمنعم، وكالنفرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي، فإذا لم تحصل هذه الحال والعمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ولم يُغْن شيئاً، وإنما يمتنع حصوله إذا عارضه معارض من حَسَدِ الرسول والتكبر عليه أو الإهمال له وإعراض القلب عنه، ونحو ذلك، كما أن إدراك الملائم والمنافي يوجب اللذة والألم إلا أن يُعارضه معارض، ومتى حصل المعارض كان وجود ذلك التصديق كعدمه، كما يكون وجود ذلك كعدمه، بل يكون ذلك المعارض موجباً لعدم المعلول الذي هو حال في القلب، وبتوسُّطِ عدمه يزول التصديق الذي هو العلة فينقلع الإ‘يمان بالكلية من القلب، وهذا هو الموجب لكفر مَنْ حسد الأنبياء، أو تكبر عليهم، أو كره فراق الإِلْفِ والعادة، مع علمه بأنهم صادقون وكفرهم أغلظ من كفر الجهال.

الثاني: أن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة، وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمرٌ، وكلام الله خبرٌ وأمرٌ، فالخبر يَستوجب تصديق المخبر، والأمر يَستوجب الانقياد، والاستسلام، وهو عمل في القلب جماعُه الخضوعُ والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد؛ فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار، فإن اشتقاقه من الأمنِ الذي هو القرار والطمأنينية، وذلك إنما يَحصلُ إذا استقر في القلب التصديق والانقياد، وإذا كان كذلك فالسبُّ إهانة واستخفاف، والانقياد للأمر إكرام وإعزاز، ومحالٌ أن يُهينَ القلبُ من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخفَ به؛ فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة وامتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام، فلا يكون فيه إيمان، وهذا هو بعينه كُفْرُ إبليس، فإنه سمع أمرَ الله فلم يكذب رسولاً، ولكن لم ينقد للأمر، ولم يخضع له، واستكبر عن الطاعة؛ فصار كافراً، وهذا موضعٌ زاغَ فيه خَلْق من الخَلَف: تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق، ثم يَرَوْنَ مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب وكفره من أغلظ الكفر فيتحيرون، ولو أنهم هُدُوا لما هُدي إليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قول وعمل، أعني في الأصل قولاً في القلب، وعملاً في القلب.

فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته، وكلام الله ورسالته يتضمن إخباره وأوامره، فيصدق القلب إخباره تصديقاً يوجبُ حالاً في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو من نوع العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو من نوع الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين؛ فمتى ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين، وإن كان مصدقاً للكفر أعم من التكذيب يكون تكذيباً وجهلاً، ويكون استكباراً وظلماً، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار، دون التكذيب، ولهذا كان كُفْرُ من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كُفْرِ إبليس، وكان كُفْرُ من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل.

ألا ترى أن نفراً من اليهود جاءوا إلى النبي ? وسألوه عن أشياء، فأخبرهم، فقالوا: نشهد أنك نبي ولم يتَّبِعوه، وكذلك هِرَقْل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق؟

ألا ترى أن من صدق الرسول بأنَّ ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبراً وأمراً فإنه يحتاج إلى مقامٍ ثانٍ، وهو تصديقه خبرَ الله وانقيادُه لأمر الله، فإذا قال: "أشهد أن لا إله إلا الله " فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره " وأشهد أن محمداً رسول الله " تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله؛ فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير