تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فلما كان التصديق لابدَّ منه في كلتا الشهادتين -وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول- ظنَّ من ظنَّ أنه أصل لجميع الإيمان، وغَفَلَ عن أصل الآخر لابدَّ منه وهو الانقياد، وإلا فقد يصدق الرسول ظاهراً وباطناً ثم يمتنع من الانقياد للأمر؛ إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى كإبليس، وهذا مما يبين لك أن الاستهزاء بالله أو برسوله ينافي الانقياد له، لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته؛ فصار الانقياد له من تصديقه في خبره.

فمن لم يَنْقَدْ لأمره فهو إما مكذِّب له، أو ممتنع عن الانقياد لربه، وكلاهما كُفر صريح، ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقاداً لأمره؛ فإن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدان، فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر؛ فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد.

الوجه الثالث: أن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر؛ فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يُذْعِنَ لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفره الخوارج، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقاً بأن الله ربه فإن معاندته له ومحادَّته تنافي هذا التصديق.

وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق؛ فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلالُ اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، هذا يكون لخللٍ في الإيمان بالربوبية، ولخللٍ في الإيمان بالرسالة، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقَبَهُ الله وعذَّبه.

ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقُدْرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس، وحقيقته كفر؛ هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك، ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحقَّ وأنفر عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوءٌ من تكفير مثل هذا النوع، بل عقوبته أشد، وفي مثله قيل " أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه " - وهو إبليس ومن سلك سبيله - وبهذا يَظهرُ الفرق بين العاصي فإنه يعتقد وجوبه ذلك الفعل عليه ويحبُّ أنه يفعله، لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة، فقد أتى من الإيمان بالتصديق، والخضوع والانقياد، وذلك قولٌ وقول لكن لم يكمل العمل.

وأما إهانة الرجل من يعتقدُ وجوبَ كرامته كالوالدين ونحوهما فلأنه لم يهن من كان الانقياد له والإكرام شرطاً في إيمانه، وإنما أهان من إكرامه شرطٌ في بِرِّهِ وطاعته وتقواه، وجانَبَ الله والرسول إنما كفر فيه لأنه لا يكون مؤمناً حتى يصدق تصديقاً يقتضي الخضوع والانقياد، فحيث لم يَقْتَضِه لم يكن ذلك التصديق إيماناً، بل كان وجوده شراً من عدمه؛ فإن مَنْ خُلِقَ له حياة وإدراك، ولم يرزق إلا العذاب؛ كان فَقْدُ تلك الحياة والإدراك أحبَّ إليه من حياة ليس فيها إلا الألم، وإذا كان التصديق ثمرته صلاح حاله وحصول النعم له واللذة في الدنيا والآخرة، فلم يحصل معه إلا فساد حاله والبؤس والألم في الدنيا والآخرة كان أن لا يُوجد أحَبَّ إليه من أن يوجد.

وهنا كلام طويل في تفصيل هذه الأمور، ومَنْ حَكَّمَ الكتابَ والسنةَ على نفسه قولاً وفعلاً نَوَّر اللهُ قلبه تبين له ضلالُ كثير من الناس ممن يتكلم برأيه فيه سعادة النفوس بعد الموت وشقاوتها، جرياً على منهاج الذين كذَّبوا بالكتاب وبما أرسلَ الله به رسلَه، ونبذوا الكتاب وراء ظهورهم، واتباعاً لما تتلوه الشياطينُ.

الجواب على الشبهة الثانية:

وأما الشبهة الثانية فجوابها من ثلاثة أوجُه:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير