تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أحدها: أن من تكلم بالتكذيب والجَحْد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه على ذلك فإنه يجوز أن يكون مع ذلك في نفس الأمر مؤمناً، ومن جوز هذا فقد خلع ربْقَةَ الإسلام من عنقه.

الثاني: أن الذي عليه الجماعة أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة، وأن القول من القادر عليه شَرْطٌ في صحة الإيمان، حتى اختلفوا في تكفير من قال: (إن المعرفة تنفع من غير عمل الجوارح) وليس هذا موضع تقرير هذا.

وما ذكره القاضي رحمه الله من التأويل لكلام الإمام أحمد فقد ذكر هو وغيره خلاف ذلك في غير موضع، وكذلك مادلّ عليه كلام القاضي عياض؛ فإن مالكاً وسائر الفقهاء من التابعين ومَنْ بعدهم -إلا من ينسب إلى بدْعَة- قالوا: الإيمان قول وعمل، وبَسْطُ هذا له مكان غير هذا.

الثالث: أن من قال: " إن الإيمان مجرد معرفة القلب من غير احتياج إلى النطق باللسان" يقول: لا يفتقر الإيمانُ في نفس الأمر إلى القول الذي يوافقه باللسان، لا يقول إن القولَ الذي ينافي الإيمان لا يبطله، فإن القول قولان: قولٌ يوافق تلك المعرفة، وقول يخالفها، فَهَبْ أن القول الموافق لا يشترط، لكن القول المخالف ينافيها، فمن قال بلسانه كَلِمةَ الكُفْر من غير حاجة عامداً لها، عالماً بأنها كلمةُ كفر فإنه يكفرُ بذلك ظاهراً وباطناً، ولأنا لا نجَوِّزُ أن يقال: إنه في الباطن يجوزُ أن يكون مؤمناً، ومن قال ذلك فقد مَرَقَ من الإسلام، قال تعالى?من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكرِه وقلبُهُ مطمئنٌ بالإيمان ولكن من شرَحَ بالكفرِ صدراً فعليهم غضبٌمن الله ولهم عذابٌعظيمٌ?.

ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط، لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أُكره ولم يرد من قال واعتقد، لأنه استثنى المُكرَهَ وهو لا يكره على العِقد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضبٌ من الله وله عذاب عظيم وأنه كافرٌ بذلك إلا من أُكره وهو مطمئنٌ بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً من المكرهين فإنه كافرٌ أيضاً، فصار من تكلَّم بالكفر كافراً إلا من أُكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ".

وقال تعالى في حقِّ المستهزئين?لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم?. فبين أنهم كفارٌ بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته، وهذا باب واسع، والفِقْهُ فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم، واقتضاؤه وجودَ هذا وعَدَمَ هذا أمرٌ جرَتْ به سنة الله في مخلوقاته، كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف الألم، فإذا عُدِم المعلول كان مستلزماً لعدم العلة، وإذا وجد الضد كان مستلزماً لعدم الضد الآخر؛ فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف مستلزم لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام فلذلك كان كُفْراً.

واعلم أن الإيمان، وإن قيل هو التصديق، فالقلب يصدق بالحق، والقول يصدق في القلب، والعمل يصدق القول، والتكذيب بالقول مستلزم للتكذيب بالقلب، ورافع للتصديق الذي كان في القلب؛ إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثر في الجوارح، فإنما قام به كفر تعدى حكمه إلى الآخر، والكلام في هذا واسع، وإنما نبهنا على هذه المقدمة.

نصوص العلماء الدالَّة على أن السبَّ كفر وحكمه القتل:

ثم نعود إلى مقصود المسألة فنقول:

قد ثبت أن كلَّ سبٍّ وشتمٍ يبيحُ الدم فهو كُفْرٌ وإن لم يكن كلّ كُفْرٍ سبَّاً، ونحن نذكر عبارات العلماء في هذه المسألة:

قال الإمام أحمد: " كلُّ مَنْ شتم النبيَّ ? أو تنقَّصه -مسلماً كان أو كافراً- فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يستتاب ".

وقال في موضع آخر: " كلُّ من ذكر شيئاً يعرض بذكر الرب سبحانه وتعالى فعليه القتل، مسلماً كان أو كافراً، وهذا مذهب أهل المدينة ".

وقال أصحابنا: التعريض بسبِّ الله وسبِّ رسوله? رِدَّة، وهو موجب للقتل، كالتصريح، ولا يختلف أصحابنا أن قَذْفَ أمِّ النبي? من جملة سبِّه الموجب للقتل وأغلظ؛ لأن ذلك يُفضي إلى القدحِ في نسبه، وفي عبارة بعضهم إطلاق القول بأن من سبَّ أمَّ النبي ? يُقتل، مسلماً كان أو كافراً، وينبغي أن يكون مُرَادهم بالسبِّ هنا القذف، كما صرح به الجمهور، لما فيه من سبِّ النبي ?.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير