من الشبهات التي وقعت لبعض من خاض في هذه المسألة بغير علم؛ قولهم: إن أهل السنة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب مالم يستحلَّه. قالوا: الاستحلال عمل قلبي، فلا يكفر من المسلم الذي يشهد الشهادتين بأي ذنب إلا إذا استحله أي جمع بين فعل الجوارح وعمل القلب!!
وهذا جهل من قائله؛ فإن معنى الذنب في هذه العبارة " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب مالم يستحله " لا تعني الذنب الأكبر الذي هو الكفر والشرك، وإنما الذنوب التي هي دون الكفر والشرك كالزنا، والسرقة، وقتل النفس التي حرم الله قتلها، ونحو ذلك من المعاصي والكبائر، وأما الكفر والشرك فإن المسلم يخرج من الإسلام بصدور القول المكفر أو العمل المكفر منه، ولو لم يكن معتقداً بقلبه كم يقول كلمة الكفر اختياراً من غير إكراه، ومن سجد لغير الله اختياراً من غير إكراه، ومن يستهزئ بالله أو رسوله أو دين الإسلام، ومن قال إنه على ملة غير ملة الإسلام اختياراً منه وبغير إكراه … ونحو ذلك من الأعمال والأقوال المكفرة المخرجة من الملة كما بيناه في الباب الثاني من هذا الكتاب.
الشبهة الثانية: قولهم إن الله يخرج من النار من قال لا إله إلا الله:
والشبهة الثانية لمن جهلوا هذه العقيدة ووقعوا في معتقد الإرجاء قولهم: أليس الله سبحانه وتعالى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله!؟ قالوا فدل ذلك على أنه من اكتفى في حياته بقول لا إله إلا الله مصدقاً بها في قلبه فإن عنده أصل الإيمان ولا يخرج منه ولو ترك العمل كله، ولا يخلد في النار. قالوا فدل ذلك على أن تارك العمل كله ليس بكافر مخلد في النار ما دام أنه قال كلمة لا إله إلا الله بلسانه مصدقاً بها في قلبه:
وجواب هذه الشبهة من وجوه:
1) ما سبق وأن حررناه في الباب الأول من هذه الرسالة بأدلته من الكتاب والسنة والإجماع وأقوال أهل العلم ومعتقد أهل السنة أن تارك العمل اختياراً فاقد لأصل الإيمان وأنه كافر على الحقيقة، كاذب في دعواه الإيمان.
2) أن باب الشفاعة يوم القيامة، وإخراج عصاة المؤمنين من النار هذا باب لفضل الله ورحمته ومشيئته كما قال سبحانه وتعالى:?إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء? فإذا شاء سبحانه وتعالى أن يغفر لبعض عباده ممن لا يشرك به شيئاً فهذا فضله ورحمته، فثم من يعذب في النار بذنب واحد، وثم من يغفر الله له سبعين سجلاً كل سجل مد البصر، والله هو العليم الحكيم سبحانه وتعالى.
3) لا يجوز التسوية بين تارك العمل اختياراً وكسلاً وإعراضاً وبين المضطر المعذور في ترك العمل كمن عاش في أوساط الكفار وهو ضعيف الحيلة، كما قال سبحانه وتعالى:?إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً ? إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفوراً? فهؤلاء قد عفا الله عنهم لعذرهم، وأولئك خلدوا في النار بإهمالهم وإعراضهم!!
والذين استهزءوا بآيات الله ورسوله والمؤمنين: قال تعالى فيهم:?لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم? أخبر سبحانه وتعالى أن منهم من قال الله عذبتهم، ومنهم من غضب عليه ولعنه قال تعالى:?إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين?.
فالله أعلم بقلوب عباده، وأخبر بذنوبهم.
4) أكثر روايات حديث الشفاعة ليس فيها هذه الزيادة: " لم يعملوا خيراً قط ". بل معرفة أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها هذه الزيادة، بل مصرحة بأن الجهنميين هم من أهل الصلاة ومن العاملين، فإذا ضممنا هذه الروايات إلى النصوص الصريحة في تكفير تارك الصلاة، لم تنهض تلك الزيادة على معارضتها، فوجب أن تفهم كما تفهم الألفاظ المعارضة للأدلة الصحيحة الصريحة، مما هو معلوم في أبواب التعارض والترجيح.
أولاً: من جهة الترجيح:
أن يقال: أن الروايات التي لم تذكر فيها هذه الزيادة، أرجح من تلك؛ من حيث كثرتها وموافقتها للأصول القطعية في أنه لن يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الإيمان قول وعمل.
¥