وهذا هو الذي استقر عليه الرازي في آخر حياته حيث قال في كتابه» أقسام اللذات «:» لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل
الصالح يرفعه) واقرأ في النفي: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (ولا يحيطون به علما) (هل تعلم له سميا) ثم قال: ومن جرَّب مثل
تجربتي عرف مثل معرفتي، وكان دائماً يتمثل: نهاية إقدام العقول عقالُ وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وحاصلُ دنيانا أذىً ووبالُ
ولم نستفدْ من بحثنا طولَ عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيلَ وقالُ [مجموع الفتاوى (4/ 72 - 73)]
وكان يقول كما قال أمثاله من قبل: من لزم دين العجائز كان هو الفائز، وكأن الجميع اتفقوا على أن غاية ما علموه طيلة حياتهم لا يُساوي دينَ
واعتقاد العجائز، وما ذاك إلا لأن إيمانهن واعتقادهن قويٌ صحيحٌ سليمٌ من تلك الشبهات والوساوس التي في نفوس أولئك القوم المتكلمين،
وقبل وفاته كتب وصيته التي أعلن فيها تبريه مما كان يقول به ورجوعه إلى مذهب السلف الصالح أهل السنة والجماعة واختياره طريقهم دون غيرهم من الناس وإثبات ما ورد من صفات الله تعالى على الوجه المراد منها واللائق بجلال الله تعالى وعظمته، قال الإمام الحافظ أبو الفداء بن كثير: ((وقد ذُكرت وصيته عند موته، وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف، وتسليم ما ورد على الوجه اللائق بجلال الله سبحانه. [البداية والنهاية (13/ 55)]
فيا ليت من انحرف عن طريق السلف الصالح أهل السنة والجماعة أن يتوب إلى الله ويرجع إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويفعل
مثل ما فعل هؤلاء من التوبة والندم والرجوع إلى ذلك.وقد تأثر كثير من تلاميذ الرازي بحاله الأول حال الحيرة والشك، فمنهم تلميذه شمس الدين عبدالحميد الخسروشاهي المتوفى سنة 652 هـ حيث قالَ لما دخلَ عليه بعض الفُضلاء قال له شمس الدين ((: ما تعتقد؟ فقال له الرجل: ما يعتقده المسلمون، فقال له: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟! فقال الرجل: نعم، قال له: اُشكر الله على هذه النعمة، ولكني والله ما أدري ما أعتقد والله ما أدري ما أعتقد والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته. [شرح العقيدة الطحاوية (1/ 245 –246)]
الآمدي
وأما الآمدي فقد كانت الحيرة والشك تغلب عليه حتى اعترف هو بذلك، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: والآمدي تغلب عليه الحيرة والوقف في
عامة الأصول الكبار، حتى أورد على نفسه سؤالاً في تسلسل العلل وزعم أنه لا يعرف عنه جواباً، وبنى إثبات الصانع على ذلك، فلا يُقرر في كتبه
لا إثبات إلا لصانع ولا حدوث العالم ولا وحدانية الله ولا النبوات ولا شيئاً من الأصول الكبار التي يحتاج إلى معرفتها. [مجموع الفتاوى (5/ 562)]
الشهرستاني أبو الفتح محمد بن القاسم بن عبدالكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ.
كان الشهرستاني من عُلماء الأشاعرة المتكلمين وقد اعترف في آخر ما حصله من ذلك بالحيرة والشك، وأن جميع من أخذ عنهم من أولئك كانوا أيضاً
في حيرة تظهر عليم في غالب أحوالهم، فقال عن نفسه في كتابه نهاية الإقدام في علم الكلام: … فقد أشار إلى من إشارته غُنم، وطاعته حَتم، أن
أجمع له مشكلات الأصول، وأحل له ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول، لِحُسن ظنه بي أني وقفت على نهايات النظر، وفُزتُ بغايات مطارحِ
الفِكَر، ولعلَّهُ استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، ثم أنشد بعد هذا قوله:
لعمري لقد طُفتُ المعاهد كلها وسيرتُ طرفي بين تلك المعالمِ
فلم أر إلا واضعاً كفَّ حائرٍ على ذقنٍ أو قارعاً سن نادمِ [نهاية الإقدام ص 1 –2]
وقد ردَّ عليه الإمام العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني بقوله:
لعلكَ أهملتَ الطوافَ بمعهدِ الرسولِ ومن لاقاهُ من كلِّ عالِمِ
فما حارَ من يُهدى بهديِّ محمدٍ ولستَ تراهُ قارعاً سِنَّ نادِمِ [حاشية درء تعاض العقل والنقل، تحقيق د: محمد رشاد سالم (1/ 159)]
¥