وفى الصحيحين عنه أنه قال: ((تفتح أبواب الجنة كل أثنين وخميس فيغفر لكل عبد لايشرك بالله شيئا الا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا)).
فهذا الهجر لحق الانسان حرام وانما رخص فى بعضه كما رخص للزوج ان يهجر امرأته فى المضجع اذا نشزت.
وكما رخص فى هجر الثلاث.
فينبغى ان يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه.
فالأول مأمور به والثانى منهى عنه؛ لأن المؤمنون أخوة.
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح: ((لاتقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخوانا المسلم أخو المسلم)).
وقال لى الله عليه وسلَّم فى الحديث الذى فى السنن: ((ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين؛ فان فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)) ...
فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر.
وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وان ظلمك واعتدى عليك.
والكافر تجب معاداته وان أعطاك وأحسن اليك ...
واذا اجتمع فى الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة = استحق من الموالاة والثواب؛ بقدر ما فيه من الخير.
واستحق من المعادات والعقاب = بحسب ما فيه من الشر.
فيجتمع فى الشخص الواحد موجبات الأكرام والأهانة، فيجتمع له من هذا وهذا؛ كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته.
هذا هو الأصل الذى اتفق عليه أهل السنة والجماعة.
وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط، ولا مستحقا للعقاب فقط.
وقال رحمه الله: فصل: فى مسائل أسحق بن منصور وذكره الخلال فى كتاب السنة، فى باب (مجانبة من قال القرآن مخلوق):
عن اسحق انه قال: (لأبى عبد الله: من قال القرآن مخلوق؟ قال: ألحلق به كل بلية، قلت: فيظهر العدواة لهم أم يداريهم؟ قال: أهل خراسان لا يقوون بهم).
وهذا الجواب منه مع قوله فى القدرية: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن اكثر اهل البصرة.
ومع ما كان يعاملهم به فى المحنة من الدفع بالتى هى أحسن، ومخاطبتهم بالحجج = يفسر ما فى كلامه وأفعاله من هجرهم، والنهى عن مجالستهم ومكالمتهم.
حتى هجر فى زمن غير ما أعيان من الاكابر وامر بهجرهم؛ لنوع ما من التجهم.
... وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة؛ فلهذا اختلف حكم الشرع فى نوعى الهجرتين بين القادر والعاجز وبين قلة نوع الظالم المبتدع وكثرته، وقوته وضعفه.
كما يختلف الحكم بذلك فى سائر أنواع الظلم من الكفر والفسوق والعصيان.
... وما امر به من هجر الترك والانتهاء وهجر العقوبة والتعزير = إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله.
والا فاذا كان فى السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة.
واذا كان فى العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة؛ بل تكون سيئة.
وان كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة.
فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التى هى ظلم وذنب وأثم وفساد ...
فاذا لم يكن فى هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء احد؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمورا بها؛ كما ذكره أحمد عن أهل خراسان؛ إذ ذاك انهم لم يكونوا يقوون بالجهمية.
فاذا عجزوا عن أظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة.
وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف.
ولعله ان يكون فيه تأليف الفاجر القوى.
وكذلك لما كثر القدر فى أهل البصرة فلو ترك رواية الحديث عنهم (((لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم))).
فاذا تعذر اقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك الا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس.
ولهذا كان الكلام فى هذه المسائل فيه تفصيل.
وكثير من أجوبة الامام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله.
أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله.
فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلَّم؛ إنما يثبت حكمها فى نظيرها.
¥