فقد اشتبه على كثير من إخواننا الذين نحسبهم على خير فى كل ما يبذلونه لخدمة دينهم ورفعة إسلامهم حقيقة مذهب السلف فى قضية التفويض، حيث ظنوا أن مذهب السلف فى نصوص الصفات ــ أو ما يطلقون عليه الصفات الخبرية أو النصوص الموهمة للتشبيه ــ هو تفويض معانى النصوص والكف عن طلب العلم بها.
ويجعلون دليلهم فى ذلك ما ثبت عن الإمام مالك بن أنس رحمه اللَّه أن رجلا جاءه وقال له: يا أبا عبد اللَّه ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه/5] كيف استوى؟!
فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فإنى أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج (1).
والحقيقة أننا إذا دققنا النظر فى قول مالك رحمه اللَّه علمنا أنه فرق فى جوابه بين أمرين أساسيين هما أصل الفهم الذى امتاز به السلف الصالح فى باب الصفات:
الأمر الأول: معنى الاستواء على العرش أو معنى الصفات بوجه عام.
والأمر الثانى: كيفية الاستواء على العرش أو كيفية الصفات بوجه عام.
فالمعنى الوارد فى نصوص الكتاب والسنة يستوعبه الذهن من خلال الألفاظ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الأسماء والصفات للبيهقى ص408، والعلو للذهبي ص141، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائى ص664.
العربية التى نزل بها الوحى، أما الكيفية فهى المدلول الحقيقى الذى ينطبق عليه اللفظ، فلفظ الاستواء فى الآية لفظ ينطبق على صفة لله لها كيفية تليق بجلاله، ونحن ما رأيناها لقوله S:
( تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ) (1).
وما رأينا لها مثيلا نصفها من خلاله لقوله تعالى:
? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? [الشورى/11].
فاللفظ دل على إثبات مدلول حقيقى وهو وصف الله الذى أمرنا بالإيمان به والتصديق بوجوده.
ولما غضب الإمام مالك على السائل غضب لأنه جاء يسأل عن كيفية الاستواء الغيبية التى تخرج عن إدراك أجهزة الحواس البشرية، ولا يمكن للإمام مالك أن يخترع له جوابا يصف فيه الكيفية التى عليها استواء اللَّه على العرش لعلمه أن ذلك قول على اللَّه بلا علم، وهو محرم بل جرم كبير لقوله تعالى:
? وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ? [الإسراء/36].
وقال أيضا: ? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ? [الأعراف/33].
فالإنسان محاسب مسئول على قول الباطل وشهادة الزور لا سيما إذا كان القول على الله بلا علم.
أما لو جاء السائل مالكا يسأله عن معنى الاستواء فى لغة العرب التى خاطبنا اللَّه بها أو سأله عن الآية: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه/5] ما الذى تضيفه للمسلم فى موضوع الإيمان باللَّه؟ لما غضب عليه مالك، إذ أن حق السائل على أهل العلم أن يفهم معانى آيات القرآن ونصوص السنة، وقد أمره اللَّه بذلك فقال:
? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ? [النحل/43].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم فى كتاب الفتن وأشراط الساعة برقم (2931).
والجواب عند ذلك بيِّن واضح مفهوم، ولن يعجز الإمام مالك عن جوابه إذ أن استواء اللَّه على عرشه له وجود حقيقى ويعنى فى اللغة العلو والارتفاع، تماما مثلما يسأل صاحب اللسان الأعجمى عن ترجمة هذه الآية، فإن المترجم لن يترجم له وصف كيفية الاستواء ولا يمكنه ذلك بحال من الأحوال، لأنه كما سبق لم يره ولم ير له مثيلا، وإنما سيشرح له بلغته معنى العلو والارتفاع على العرش وأن اللَّه ليس كمثله شئ فى استوائه، ويبين له ضرورة الإيمان بوجود الاستواء وأن له كيفية معينة تليق بجلال اللَّه يعلمها الله ولا نعلمها نحن.
¥