ولما كان كل ماض سلف فقد شاع إطلاقا هذا المصطلح معرفا ــ السلف ــ على الجيل المؤسس الذى أقام الدين وطبق منهاج الإسلام، جيل الصحابة الذين تنزل الوحى فيهم وتلقوا عن المعصوم S البيان النبوى للبلاغ القرآنى، وحولوا جميع ذلك إلى واقع حياتى معين فعدوا لذلك السلف الصالح بتعميم وإطلاق، ثم انضم إليهم فى زمرة السلف من اهتدى بهديهم وعمل بسنتهم من التابعين وتابع التابعين والأئمة العظام للمذاهب الكبرى من تابعى التابعين.
ويمكن القول بصورة أكثر دقة: إن مصطلح السلف يتناول كل من أدرك عصر خير القرون وقدم كتاب الله على عقله وفلسفته وهواه، فهنا عاملان فى بلورة الاصطلاح: عامل زمنى وآخر منهجى، أما العامل الزمنى فيشير إليه حديث عبد الله بن مسعود ? أَنَّ النَّبِيَّ S قَالَ:
(خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري 9/ 158، نشر دار صادر بيروت الطبعة الأولى، وانظر أيضا التوقيف على مهمات التعاريف لمحمد عبد الرؤوف المناوي 1/ 412 نشر دار الفكر المعاصر بيروت 1410هـ.
أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ) (1).
فهذه الفترة فترة العصر الذهبى الذى يمثل نقاء الفهم والتطبيق للمرجعية الفكرية والدينية، قبل ظهور المذاهب التى وفدت بعد الفتوحات وأدخلت الفلسفات غير الإسلامية على فهم السلف الصالح للإسلام.
كما يمكن القول إن عصر السلف الصالح يمتد من زمن النبوة إلى زمن المحنة عندما تولى المعتزلة إدارة الخلافة الإسلامية فى عهد الخليفة المأمون من خلفاء بنى العباس، حيث فرض على الناس مذهبهم بقوة الدولة وامتحن علماء السلف فى قضية خلق القرآن وتعطيل الصفات الإلهية.
وأما العامل المنهجى فطريقة السلف طريقة الإيمان والتسليم، لا يقدمون آراءهم على كتاب الله وسنة رسوله S، ويعلمون أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح بل يشهد له ويؤيده، وكل من جاء بعدهم وسار على دربهم واعتقد صحة نهجهم فهو خير خلف لخير سلف وإن لم يدخل تحت الاصطلاح.
والخلف لغة: القرن بعد القرن، يقال: هؤلاء خلف سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم، والخلف أيضا الرديء من القول، يقال: سكت ألفا ونطق خلفا أي سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطإ، والخلف أيضا ساكن اللام ومفتوحها ما جاء من بعد يقال: هو خلف سوء من أبيه وخلف صدق من أبيه إذا قام مقامه (2).
قال ابن المطرز: (خلف فلان فلانا جاء خلفه، ومنها خلفة الشجر وهي ثمر يخرج بعد الثمر الكثير، وخلفة النبات ما ينبت في الصيف بعدما يبس العشب وكذلك ما زرع من الحبوب بعد إدراك الأولى يسمى خلفة، وخلفته خلافة كنت خليفته) (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخارى فى كتاب المناقب برقم (3651).
(2) انظر مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي بتصرف 1/ 78، نشر مكتبة لبنان بيروت 1415هـ.
(3) المغرب في ترتيب المعرب لأبى الفتح ناصر الدين بن المطرز 1/ 286، نشر مكتبة أسامة بن زيد، حلب سنة 1979م.
أما الخلف فى الاصطلاح فقد أطلق على كل من أعقب السلف فى الزمن وقدم العقل والرأي على كتاب الله وسنة رسوله S ومزج كلام فلاسفة اليونان بأمور العقيدة ومسائل الديانة.
هذا الاتجاه هو ما عرف بمذهب الخلف قديما ويصدق عليه من سار على دربهم حديثا، وقد كان المنطق الأرسطى اليونانى محاطا بهالة من التقديس والإعجاب لدى هؤلاء، إذ جعلوه أصلا يسيرون على نهجه وميزانا لقياس الأمور العقائدية الثابتة بالوحى.
قال ابن حجر العسقلانى: (وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون اليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف) (2).
• المحكم والمتشابه فى مفهوم السلف والخلف:
¥