الثالث: أن يرد لفظ المتشابه فى القرآن مقولا على بعض منه مخصوص، مقابلا وقسيما للبعض الآخر الذى يقال عليه وصف المحكم، وبحيث لا يجتمع هذان الوصفان المتقابلان فى شىء واحد ألبتة، وذلك هو ما جاء فى قوله تعالى:
? هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ?
[آل عمران:7].
وهذا المعنى هو الذى ينصرف إليه لفظ المتشابه عند الإطلاق والتجرد من القرينة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكشاف للزمخشرى 4/ 95.
(2) تفسير البيضاوى تحقيق عبد القادر عرفات العشا حسونة ص247، نشر دار الفكر بيروت
سنة 1416هـ.
وإن الناظر فى هذين الوصفين المتقابلين واللذين لا يصدق واحد منهما على ما يصدق عليه الآخر من الكتاب المجيد ليرى اختلافا عظيما بين العلماء فى تبيان هذا المعنى، وهذا ما يهمنا فى هذا البحث.
ويذكر الشيخ أبو بكر الجصاص أن كلا من المحكم والمتشابه فى القرآن ينقسم إلى معنيين:
أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه، والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض قال الله تعالى:
? الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ? [هود:1]، فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالإحكام، وقال تعالى:
? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ِ? [الزمر:23]، فوصف جميعه بالمتشابه، ثم قال في موضع آخر:
? هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ?
[آل عمران:7].
فوصف ههنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه، والإحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول، وأما موضع الخصوص في قوله تعالى: ? هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ? فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل سامعه إلا معنى واحدا (1).
ويرى الفخر الرازى من علماء الخلف أن اللفظ الذى جعل موضوعا لمعنى، إما أن يكون محتملا لغير ذلك المعنى وإما أن لا يكون، فإذا كان اللفظ موضوعا لمعنى ولا يكون محتملا لغيره فهذا هو النص.
وأما إن كان محتملا لغيره فلا يخلو إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحا على الآخر وإما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء، فإن كان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحكام القرآن، تحقيق محمد الصادق قمحاوي 2/ 286، نشر دار إحياء التراث العربي بيروت سنة 1405هـ.
احتماله لأحدهما راجحا على الآخر سمى ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهرا وبالنسبة إلى المرجوح مؤولا، وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معا مشتركا، وبالنسبة لكل واحد منهما على التعيين مجملا.
فاللفظ إما أن يكون نصا أو ظاهرا أو مؤولا أو مشتركا أو مجملا، أما النص والظاهر فيشتركان فى حصول الترجيح إلا أن النص راجح مانع من الغير والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى عنده بالمحكم.
وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان فى أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة فالمجمل وإن لم يكن راجحا لكنه غير مرجوح، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه، إما لأن الذى لا يعلم يكون النفى فيه مشابها للإثبات فى الذهن، وإما لأجل أن الذى يحصل فيه التشابه يصير غيرمعلوم، فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقا (1).
ثم إن الناس اختلفت اختلافا عظيما كذلك فى قضية العلم بتأويل المتشابه بهذا الإطلاق هل مقصور على الله تعالى، أو هو بحيث يتأتى للراسخين فى العلم أيضا؟
ومن أبرز المتشابه بهذا الإطلاق فى القرآن ما يعرف لدى علماء الخلف بآيات الصفات الخبرية، أو متشابه الصفات كالآيات التى جاء فيها ذكر الوجه واليد والجنب والروح والنفس والاستواء والفوقية والرضا والغضب وما إلى ذلك.
¥