ويعلل الزمخشرى المعتزلى حكمة ورود المتشابه بهذا الإطلاق فى القرآن والسنة بأنه لو كان القرآن كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولما فى المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما فى تقادح العلماء وإتعاب القرائح فى استخراج معاينة ورده إلى المحكم من الفوائد الجلية والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة فى كلام الله ولا اختلاف إذا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفاتيح الغيب للفخر الرازى 7/ 168.
رأى فيه ما يتناقض فى ظاهره وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه المحكم ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوة فى إيقانه (1).
ويمكن بالتتبع والاستقراء حصر الأراء التى فسرت معنى المحكم والمتشابه فى القرآن الكريم فى النقاط الآتية:
1 - المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل.
2 - المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا والمتشابه ما يحتمل وجوها فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما.
3 - المحكم ناسخه وحرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه والمتشابه منسوخه وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به.
4 - المحكم الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له والمتشابه ما فيه تصريف وتحريف وتأويل.
5 - المحكم ما كان قائما بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره والمتشابه ما يرجع فيه إلى غيره.
وجميع تلك الأراء فى معنى المحكم والمتشابه تكاد تتمثل فى أن المحكم هو المعلوم الواضح الذى يمكن تحديده وتمييزه كالصورة فى المرآة المصقولة عند تحديد معالمها وضبط ملامحها والتمكن من وصفها، فما لا يحتمل إلا وجها واحدا يصبح معلوما مميزا، وقد سميت آيات الأحكام بما تحويه من أحكام أحكاما لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها.
كما أن المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذى لا يعلم، إما من التشابه والتماثل كقوله تعالى:
? كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ِ? [البقرة:118]، أى أشبهت قلوب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكشاف للزمخشرى 1/ 259.
مشركى العرب قلوب من تقدمهم فى الكفر والعناد والعتو (1)، وإما من الاختلاط وعدم التمييز بين الأشياء كقوله تعالى عن بنى إسرائيل:
? إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ِ? [البقرة:70]
وعلى هذا المعنى السابق للمحكم والمتشابه سوف ننظر إلى تفسير الآية السابعة من آل عمران والتى هى محل بحثنا فى علاقة التفويض بالمحكم والمتشابه، وهى قوله تعالى: ? هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ? [آل عمران:7].
فكثير من الناس يعتبرون معانى نصوص الصفات من المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله مستدلين بهذه الآية، وفى هذا نظر حيث يترتب علي ذلك من اللوازم الباطلة ما لا يرضاه المسلم على كلام الله، يقول أبو محمد بن قدامة المقدسي: (وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام صفات الرحمن وجب الإيمان به وتلقيه بالتسليم والقبول وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل لفظا وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله ونجعل عهدته على ناقله اتباعا لطريق الراسخين في العلم) (2).
¥