قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله معقبا: (قولهم أمروها كما جاءت يقتضى إبقاء دلالتها على ما هى عليه فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم غير مراد أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ: بلا كيف، إذ نفى الكيف عما ليس بثابت لغو من القول) (2).
وعلى ذلك أيضا جاء قول مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) (3).
وربما زعم بعضهم أن قول السلف فى الاستواء معلوم يعنى أن آية الاستواء موجودة فى القرآن وقد رد شيخ الإسلام مجيبا عن هذه الشبهة فقال: (فإن قيل معنى قوله: الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ فى القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذى استأثر الله بعلمه!!
قيل: هذا ضعيف، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل فإن السائل قد علم أن هذا موجود فى القرآن وقد تلا الآية، وأيضا لم يقل ـ يعنى الإمام مالك ـ ذكر الاستواء فى القرآن ـ يعنى معلوم ـ ولا إخبار الله بالاستواء ـ يعنى معلوم ـ وإنما قال الاستواء معلوم .. وأيضا فإنه قال: والكيف مجهول ولو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه) (4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفتوى الحموية ص28.
(2) السابق ص28.
(3) تقدم تخريجه.
(4) رسالة الإكليل ضمن مجموعة الرسائل الكبرى 2/ 33.
وختاما أدعو إخواننا الذين يظنون أن مذهب السلف هو تفويض معانى النصوص التى خاطبنا اللَّه بها إلى إعادة النظر فى الأمر حتى لا يظلم المذهب السلفى من ناحية ولا يدعون إلى غير الحق من ناحية أخرى، وقد قال العلامة ابن القيم: (فلا سعادة للعباد ولا صلاح لهم ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكون هو وحده غاية مطلوبهم والتقرب إليه قرة عيونهم) (1)، فكيف تتم هذه السعادة فى ظل عقيدة التفويض؟
وإذا كان قبول العمل عند الله يعود إلى صدق النية وقوله S :( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) (2)، فالنية وحدها لا تكفى إذ لا بد من شرط المتابعة لمن سلف واجتناب بدعة من خلف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 1/ 47.
(2) أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى برقم (1).
أهم المراجع
• أحكام القرآن لأبى بكر الجصاص، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، نشر دار إحياء التراث العربي بيروت سنة 1405هـ.
• أصول الدين، لجمال الدين أحمد بن محمد بن سعيد، تحقيق عمر وفيق الداعوق نشر دار البشائر الإسلامية، بيروت سنة 1998.
• أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات تأليف مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، نشر مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1406هـ.
• الاتقان فى علوم القرآن تأليف جلال الدين السيوطى، طبعة مصطفى البابى الحلبى القاهرة سنة 1354هـ.
• البداية والنهاية، لأبى الفداء إسماعيل بن عمرو بن كثير القرشى الدمشقى طبعة المطبعة السلفية، القاهرة سنة 1351 هـ.
• البرهان المؤيد لأحمد بن علي بن ثابت الرفاعي الحسيني، تحقيق عبد الغني نكهمي نشر دار الكتاب النفيس بيروت 1408هـ.
• البرهان فى علوم القرآن للإمام بدر الدين الزركشى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة دار المعرفة، بيروت سنة 1972م.
• بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية لابن تيمية، نشر مطبعة الحكومة مكة المكرمة سنة 1392هـ.
• تحريم النظر في كتب الكلام لابن قدامة، تحقيق عبد الرحمن بن محمد سعيد دمشقية، نشر دار عالم الكتب الرياض سنة 1990م.
• تفسير ابن جرير الطبرى، جامع البيان عن تأويل آى القرآن، لأبى جعفر محمد ابن جرير الطبرى، تحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، مراجعة الشيخ أحمد محمد شاكر، طبعة دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ.
¥