الشرح: هذا الأصل العظيم والقاعدة العامة يدخل فيها الدين كله، فكله مبني على تحصيل المصالح في الدين والدنيا والآخرة، وعل دفع المضار في الدين والدنيا والآخرة. ما أمر الله بشيء إلا وفيه من المصالح ما لا يحيط به الوصف. وما نهى عن شيء إلا وفيه من المفاسد ما لا يحيط به الوصف. ومن أعظم ما أمر الله به التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، وهو مشتمل على صلاح القلوب وسَعتها ونورها وانشراحها وزوال أدرانها، وفيه مصالح البدن والدنيا والآخرة. وأعظم ما نهى الله عنه الشرك في عبادته الذي هو فساد وحسرة في القلوب والأبدان والدنيا والآخرة. فكل خير في الدنيا والآخرة فهو من ثمرات التوحيد، وكل شر في الدنيا والآخرة فهو من ثمرات الشرك" اهـ.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة زيارة القبور: "يكفي المؤمن أن يعلم أن ما أمر الله به فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى الله عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة، ولا أمرهم إلا بما يصلحهم ولا نهاهم إلا عما يضرهم" اهـ.
وقال أيضا في كتاب الحسبة: "إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا تزاحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، ويجب احتمال أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما وذلك بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام" اهـ.
وقال أيضا: "ليس كل سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعاً ولا مباحاً، وإنما يكون مشروعاً إذا غلبت مصلحته على مفسدته مما أذن فيه الشرع، والمسلم يعلم أن الله لم يحرم شيئا إلا ومفسدته محضة أو غالبة" اهـ[الفتاوى].
وقال أيضا: "إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة" اهـ[الفتاوى 28/ 129].
القاعدة الرابعة: التفريق بين التعريض والتصريح بالكفر:
روى مسلم في صحيحه [رقم:1801] قصة محمد بن مسلمة وقتله كعب بن الأشرف من حديث جابر رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله"، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم"، قال: ائذن لي فلأقل. قال: "قل". فأتاه فقال له وذكر ما بينهما، وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنّانا. فلما سمعه، قال: وأيضا والله لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه الآن ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره. قال: وقد أردت أن تسلفني سلفاً. … الحديث
قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم: "قوله: "ائذن لي"، معناه ائذن لي أن أقول عني وعنك ما رأيته مصلحة من التعريض وغيره ففيه دليل على جواز التعريض وهو أن يأتي بكلام باطنه صحيح يفهم منه المُخاطب غير ذلك فهذا جائز في الحرب وفي غيرها ما لم يمنع به حقاً شرعياً. قوله: "وقد عنّانا"، هذا من التعريض الجائز بل المستحب لأن معناه في الباطن أنه أدبنا بآداب الشرع التي فيها تعب لكنه تعب في مرضات الله تعالى فهو محبوب لنا، والذي فهم المُخاطب منه العناء الذي ليس بمحبوب" اهـ[12/ 161].
وهذا الذي قرره الإمام النووي هاهنا قد سبقه إليه الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في كتابه تهذيب الآثار.
القاعدة الخامسة: الحوادث التاريخية تذكر للاستئناس والاعتضاد لا للاستدلال والاعتماد:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كما أنه إذا ذُكر حكم بدليل معلوم ذُكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك لما في ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في الحكم الشرعي، ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك وبآثار الصحابة والتابعين، بل وبأقوال المشايخ والإسرائيليات، والمنامات مما يصلح للاعتضاد، فما يصلح للاعتضاد نوع وما يصلح للاعتماد نوع" اهـ[الرد على البكري ص152].
وفي الختام فمن لم يراع هذه القواعد المقررة في النصوص الشرعية وفي كلام أهل العلم وخرج عنها عند جوابه عن المسألة فقد جانب الصواب، وكان قوله غير معتبر ..
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ..
كتبه الراجي عفو ربه ولد الحاج الافريقي.