ومن تناقضه أنه زعم أن هذا العلم مستنده الكتاب والسنة.
قال في "تهذيب شرح السنوسية" (ص25): النصوص التي ينقلها البعض في التشنيع على من اشتغل بهذا العلم, وينسبونها إلى بعض السلف لا يخلو الحال فيها من أمور: إما أن يكون هؤلاء السلف قد نهوا عن الكلام في العقائد مطلقاً الصحيح منها والباطل؛ فهذا النهي مردود عليهم؛ فإنه قد ثبت بالأدلة الشرعية وجوب الاشتغال بهذا العلم .. !
مع اعترافه أن هذا العلم أصله من اليونان، قال في "الميسر" (ص13): واليونان كان هو الشعب الذي اهتم بعض فلاسفته بتدوين هذا العلم وبيان أركانه وأسسه الكلية, وهذا لا يعني مطلقاً أن غير اليونان من الناس لم يعرفوا المنطق، بل ثبت عند الباحثين أن غير اليونان من الشعوب عرفت المنطق, وكتبت فيه ثم انتشر العلم إلى الناس عن طريق اليونان, ووصل علم المنطق إلى المسلمين؛ فاشتغل به الناس أولاً عن طريق الترجمات التي وصلت إليهم, وكان المترجمون ينقلون المنطق مع أمثلته التي كان يستعملها فلاسفة اليونان.
قلت: رحم الله الحافظ الذهبي إذ يقول: وإذا كان علم الآثار مدخولا ًفما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين ولا من علم الأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وشعبة, ولا والله عرفها ابن المبارك ولا أبو يوسف القائل من طلب الدين بالكلام تزندق، ولا وكيع ولا ابن مهدي ولا ابن وهب ولا الشافعي ولا عفان ولا أبو عبيد ولا ابن المديني وأحمد وأبو ثور والمزني والبخاري والأثرم ومسلم والنسائي وابن خزيمة وابن سريج وابن المنذر وأمثالهم، بل كانت علومهم القرآن والحديث والفقه والنحو, وشبه ذلك ().
مع أنه يقرر أن الذي عليه أن يطلب هذا العلم هو من يغلب عليه الشك!
قال في "الفرق العظيم" (ص62): وأيضاً فلم يقل أحد إن علم الكلام مطلوب تعلمه من كل إنسان بل ممن يغلب عليه الشك ليذهب شكه بما يقرؤه من حجج.
أقول: وأكثر الناس شكاً كما قال بعض السلف هم علماء الكلام بسبب خوضهم في مباحثه النظر والعرض والجوهر وغيرها من حشو الكلام.
ثم اعترافه بضرورة تكرار قراءة كتب المنطق: فقد ذكر عن العلماء أنهم كانوا يقرءون الكتاب مرات عديدة قبل أن ينتقلوا إلى غيره من الكتب, وقد ذكر عن السيد الشريف الجرجاني أنه قرأ "شرح المطالع" في علم المنطق أكثر من أربعة عشر مرة قبل أن يذهب إلى مصنفه وهو العلامة القطب الرازي لقراءته عليه ().
قلت: وذلك لصعوبتها وقلة بركتها؛ فقد ذكر الذهبي في ترجمة ابن سينا: أنه قال: قرأت كتاب "ما بعد الطبيعة"، فأشكل علي حتى أعدت قراءته أربعين مرة، فحفظته ولا أفهمه!
وهذه كلمة نقلها ابن القيم رحمه الله تعالى عن الإمام السمعاني توضح الفرق بين طريقة السلف وهي الاعتماد على الحديث والأثر, وبين طرق المبتدعة في الاعتماد على علم المنطق والكلام، حيث قال:
"فزعم كل فريق منهم - أي المبتدعة - أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام، وأن الحق الذي قام به رسول الله ? هو الذي يعتقده وينتحله؛ غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفاً عن سلف وقرناً عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب النبي ?, وأخذه الصحابة عن رسول الله ?, ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله ? الناس من الدين المستقيم والصراط القويم إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث.
ومما يدل على أن أهل الحديث على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولها إلى آخرها قديمها وحديثها، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار في باب الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونقلهم لا ترى فيه اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم؛ وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟
¥