والكلام على هذا الأثر سيكون في مسألتين:
الأولى: البحث في حقيقته وتطبيقاته عند أصحابه.
الثانية: البحث في أدلة صحته أو فساده.
المسألة الأولى
حقيقة الأثر السياسي وتطبيقاته عند أصحابه
من المؤثرات التي ادعى فيها أنها قد أثرت في بناء القواعد العلمية التي ذكرها الأئمة= الأثر السياسي , وحقيقة هذا الأثر هي: أن بعض الأئمة وضع بعض القواعد العلمية , وقرروا بعض الأصول الشرعية بناءا على قناعات سياسية متعلقة بولاة الأمور الذين كانوا في عصرهم , فهم أصلوا بعض الأصول الشرعية حتى يصلوا إلى رضى من كان يحكمهم في ذلك العصر , ويشرعوا لما كانوا يريده بوضع القواعد وتأصيل الأحكام حتى لا يعترض على ما يفعلونه , ولم يكن من همهم إصابة مقتضى النصوص ودلالاتها, ونشر مراد الله ورسوله , وإنما وضعوا هذه القواعد وضعا يناسب حال السلطة الحاكمة.
وهذه الدعوى انتشرت , وشاع استعمالها في هذه العصور المتأخرة من كثير من الذين أرادوا نقد الفكر الإسلامي وتجديده , فكثير من القضايا التي أرادوا نقدها أو تجديدها ربطوها بالسياسة , وزعموا أنه إنما قيل بها بناءا على موقف سياسي , فأصبح إثبات تأثر القضية العلمية بالسياسة أحد مبررات نقدها , بل كثر عندهم ربط الحراك الديني في الأمة الإسلامية سواء في الماضي أو في الحاضر بالأغراض السياسية , فالحركات الدينية غرضها في الأصل من قبيل الأغراض السياسية ويغطون على هذه الأغراض بالشعارات الدينية حتى يستميلوا الجمهور إليهم (1) , فالمقصود أن هذا الربط هو المدخل المسوغ لما يريدونه من نقد ما أرادوا نقده ورده من بعض الأصول والقواعد العلمية.
** مجالات وتطبيقات هذه الدعوى
لقد طبق أصحاب هذه الدعوى دعواهم على مجالات كثيرة وفي علوم متعددة من العلوم الإسلامية , في علوم العقائد والفقه وأصوله والحديث وعلوم العربية ونحوها من العلوم , فكم من قضية أو قاعدة في هذه العلوم ادعوا فيها أنه إنما قيل بها من أجل غرض سياسي حتى يفتحوا الباب لما يريدون , , وفي هذا يذكر أحمد أمين أن خلفاء بني العباس قد مارسوا ضغوطا معينة على بعض العلماء في زمنهم حتى يضعوا قواعد وأخبارا توافق سياساتهم وتأيدها, وأن ذلك حصل في الفقه والأدب والنحو وغيرها من العلوم (2)
ومن هذه العلوم علم العقيدة , فقد زعم محمد أركون أن وضع العقائد لا يخلوا من تأثير سياسي حتى عند أئمة السلف , وفي هذا يقول لما ذكر فتنة القول بخلق القرآن:" وهذا المثال يبين الرهانات السياسية للعقائد الإيمانية " (3) , وهذا ما ذكره الجابري أيضا حيث قال:" لقد كانت معارضة ابن حنبل دينية اجتهادية من جهة , وسياسية ظرفية من جهة أخرى , وقد ورث الحنابلة ليس الجانب الديني في فكر ابن حنبل فحسب , بل تبنوا أيضا مواقفه السياسية إزاء خصومه " (4) , وذكر أن الفكر السلفي قد انخرط في الصراعات السياسية من زمن الفتنة الكبرى وبنى مواقفه وآراءه بناءا على مقتضى تلك الصراعات الظرفية (5) , وذكر حسن حنفي أن إثبات الصفات لله تعالى عند السلف كان لأغراض سياسية , وفي هذا يقول:" أما الصفات التي تجعل الله يسمع ويرى ويبصر كل شيء فقد تمت صياغتها من أجل استخدام سياسي خاص للسلطة " (6) , وبالغ حنفي كثيرا حتى ذكر أن كلام العلماء عن توحيد الله في أسمائه وصفاته وإفراده بالحمد إنما هو لغرض سياسي وهو إفراد السلطان الحاكم بالسيطرة على غيره (7) , وذكر هاشم صالح أن السلف احتكروا لقب أهل السنة ومروره على أنه لقب ديني وهو في الحقيقة مبني على أساس سياسي , وفي هذا يقول:" مفهوم أهل السنة احتكره أهل السنة لأنفسهم دون سواهم عن طريق الارتكاز على حديث مشهور , ومن المعروف أن هذا الاحتكار إيديولوجي ولا يستند إلى أي أساس لاهوتي أو ديني , ولكن نظرا لإمساكهم بزمام السلطة فترة طويلة من الزمن فقد استطاعوا تمريره على أساس أنه ادعاء لاهوتي ديني , وغطوا على أصل منشئه التاريخي والسياسي " (8) , ورد أحدهم تفسير العلماء للفرقة الناجية بأنهم أهل الشام إلى سبب وغرض سياسي , وهو الوقوف مع بني أمية في الشام ضد أعداءهم في الحجاز (9) , ومن ذلك ما ذكره توفيق الطويل من أن الاضطهاد الذي تعرض له التصوف كقتل الحلاج وغيره إنما كان لبواعث شخصية ودوافع سياسية (10) , ولما ذكر ما أسماه اضطهاد
¥